تجربتي الأولى، وكانت صعبة، هي أن توفي والدي – رحمه الله – ، وأنا في سن الخامسة عشر وكنت أكبر الإخوان والاخوات ، وكان عليّ أن أرتب شئونهم ومعيشتهم بالتعاون مع الوالدة رحمها الله ، وتحملت منذ ذلك الوقت المسئولية في أعمال تصفية تركة والدنا مع بقية الإخوان والأخوات غير الأشقاء ، ولم تكن تلك سهلة ، أخذ في الاعتبار حداثة سني وتجربتي واجتزنا تلك المرحلة الصعبة بسلام ، في ظل وجود عميد أسرتنا ووالدنا العم معالي محمد سرور الصبان – رحمه الله – ، وهو رجل الدولة ومشاغله عديدة ، وطلب مني أن أقوم بالأشياء الصغيرة للأسرة على أن أعود إليه في المهمات الكبيرة والصعبة وقمت بذلك بعون من الله والوالدة رحمها الله ، التي لم يتجاوز عمرها وقت وفاة والدي رحمه الله الخمسة والثلاثين عاماً ، وهي التي رفضت قبول زواجها من رجال تقدموا إليها ، لتلتفت إلى رعاية إخوتي الصغار وتعليمهم وتربيتهم جزاها الله عنَا ألف خير واكتسبت في ظل هذه الخبرة عدة أمور لعل أولها الإعتماد على الذات وبعض مهارات التفاوض .
الميزة التي أدعي إتقانها منذ الصغر ، ونتيجة للظروف السابق ذكرها ، هي الصبر وهو ما أستمر معي طوال حياتي وعدم اليأس واليقين بالله بأن “ما أصابك لم يكن ليُخطئك” .
وما صقل هذه الميزة لدي هو التحمل المبكر للمسئولية وحداثة الخبرة ويقيني أنني لابد وأن أتعلم من كل تجربة ، لأتفادى الوقوع في نفس الأخطاء عدة ومرات.
ماهيالعلاقةالأولىمعميولكللاقتصاد؟هلكانتشغفأوالوراثةلعبةدورهاوإعادةتاريخهاللأديبمحمدسرورالصبان سبق كانوزيرًاللماليةوالإقتصاد؟
لم أكن أفكر في دخولي مجال الإقتصاد ، وكانت الحقول المفضلة لدينا نحن طلاب الثانوية وقتها أن نتخصص إما طب أو هندسة ، وكانت هذه رغبة ليس فقط الطلاب بل حتى أولياء أمورهم وما أن تخرجت من الثانوية ، وبمعدل عالي ولله الحمد حتى خاطبت كلية الهندسة في الرياض ، فلم يكن هنالك قسم هندسة في جامعة الملك عبد العزيز بفرعيها بمكة وجدة ، ولم يتم تغيير فرع الجامعة بمكة إلى جامعة أم القرى إلا لاحقاً ، وكان ولايزال يُطلق عليها ” جامعة رضا الوالدين” ، لإصرار الأب والأم بالتحاق أبنائهم بهذه الجامعة لقربها منهم .
وما أن التحقا بكلية الهندسة بالرياض ، حتى شعرت بأنه لا رغبة لي في موادها ولا ميول وأكملت السنة الإعدادية الأولى بنجاح دون رغبة وما أن تخصصت في السنة الثانية بقسم الهندسة المعمارية ، حتى شعرت بغربة عجيبة نحو هذا التخصص ، وبنهاية العام الدراسي تركت كلية الهندسة ، والتحقت بكلية الإقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة ، ولم أكن متأكداً بأنني سأجد التخصص المتوافق مع رغباتي الشخصية .
وسعدت والدتي رحمها الله ، أيما سعادة بقراري هذا وإن كانت تريدني في جامعة أم القرى بمكة وأقنعتها بأني سأكون معها كل نهاية أسبوع واقتنعت .
وتم إعفائي من السنة التحضيرية في جامعة الملك عبد العزيز ، والتحقت بقسم الإقتصاد ، فوجدت نفسي فيه ، وإن كانت مواده الأولى جافة .
أما دور عمي محمد سرور الصبان رحمه الله ، وتأثيره في هذا الإختيار فقد كان واضحاً حيث أن العائلة جميعها تأثر بشكل كبير به وبأعماله ومسئولياته الإقتصادية والإجتماعية ، وأيضا بالوالد رحمه الله الذي كان مديراً عاماً للشركة العربية للسيارات ، وهي من أوائل الشركات التي تأسست في مكة لنقل المعتمرين والحجاج .
وبمرور السنوات الدراسية في الإقتصاد ، إكتشفت نفسي ورغبتي وميولي وتخرجت وكنت الأول على دفعتي بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف ، ومن ثم عُيًنت معيداً بالقسم وتم إبتعاثي إلى الولايات المتحدة الامريكية حيث أكملت دراستي العليا هناك .
لم أتخصص في الإقتصاد النفطي إلا في مرحلة الدكتوراة ، ووجدت أنه سيكون الإختيار المناسب لوطن النفط والغاز ، وتلمست بأن مجتمعنا يفتقر للثقافة النفطية ، وهو أمر مؤلم أن لا يعرف المواطن السعودي عن النفط سوى أننا نمتلك إحتياطيات كبيرة منه فقط وحتى الإعلام السعودي لم يؤدي دوره في تثقيف المجتمع بهذه الثروة التي حبانا الله بها ، بينما العالم أجمع يتحدث عن النفط وأنه كان وما يزال محرك الثورات الصناعية في مختلف دول العالم ، وهو الوقود الرئيسي الذي يعتمد عليه العالم لتحقيق نموه الإقتصادي وكان الخبراء الأجانب يديرون كل مفاصل صناعة الطاقة لدينا ، وكان عدد المتخصصون في مجال النفط محدود ، وأغلبهم في جيولوجيا النفط وأموره الفنية .
تعلمت الكثير والكثير جدا في هذا المجال ، فالنفط ليس فقط سلعة تباع وتشترى ، بل تشعبت أسواق النفط العالمية ، وأصبحت تدار إلكترونياً من خلال مختلف الصفقات الفورية والمستقبلية ، وإستخدام المخزونات لمواجهة الإنقطاعات المحتملة في الإمدادات ودور التطورات التقنية في إطالة وإكتشاف مزيد من النفط ، ودورها في تخفيض تكاليف الإنتاج.
فمن كان يتصور أن الاحتياطيات العالمية من النفط قد فاقت التريليوني برميل حاليا أي ضعف ما كانت عليه قبل أربعة عقود ، حينما كانوا يُخيفوننا بنضوب قادم للنفط ، وهذا الحجم المضاعف للاحتياطيات حدث بالرغم من كميات النفط الكبيرة المستهلكة عبر العقود الماضية ، وبالتالي تم تعطيل وإلى حد كبير نظريات عديدة مثل “نظرية الموارد الناضبة” .
وتعلمت أيضا من خلال التفاوض الدولي لتغير المناخ ، حيث تشرفت بترأس وفد المملكة لحوالي ثلاثين عاماً في إطار الأمم المتحدة ، وتعرفت بأن الغرب يستخدم “هوجة تغير المناخ” ، للتخلص التدريجي من إستهلاك النفط عالمياً ، غير مهتم بما يحدث للفحم والغاز ، وأنه يٌروج لمصادر الطاقة المتجددة لإمتلاكه لتقنيات هذه المصادر ولقد كافحنا ليل نهار حتى لا يتم تمرير مؤامراتهم التي تقضي على النفط كمصدر رئيسي من مصادر الطاقة ، ولا زالوا يحاولون وإلى الأن في تمرير ما يريدونه .
وهنالك الكثير والكثير مما تعلمته خلال رحلتي العلمية والعملية عن النفط وإقتصاداته .
التحليل للأمور أصبح عادة في حياتي اليومية ، وأعلم أبنائي عادة تحليل مختلف الأفكار وعدم أخذها بأنها أمور مسلم بها كما تعودنا على ذلك إبان دراساتنا في مراحل ما قبل الجامعة .
مواقف عديدة مررت بها وبالذات في مجال التفاوض الدولي دفاعاً عن النفط ولم أكن أتصور أنه بمقدور أي واحد منًا أن يواصل ثلاثة أيام دون نوم ، ومنت أعتبر ذلك مستحيلاً ، إلى أن تحقق في أكثر من مؤتمر بدءاً بمؤتمر ” كيوتو” باليابان 1997م ، ولم نشعر بالنعاس طيلة الثلاثة أيام ، حيث كانت الدول الغربية ووفودها تحاول اقتناص غياب الوفد السعودي حتى يمرروا ما يريدون ، وفوتنا الفرصة عليهم لتحقيق ذلك حتى طالبوا بإستبدال رئيس الوفد وعلى أعلى المستويات .
إكتسبت من المفاوضات الدولية كثير من الفوائد والإصرار في تقديم مواقفنا ودعم ذلك بالحجج والبراهين وعدم اليأس في أن موقف دول الأوبك والسعودية القائدة لهذا التجمع ، لن يٌقبل ، وأخذت ذلك درساً للحياة أفادني في بقية رحلتي العلمية والعملية بل وحتى في حياتي الأسرية .
أما بالنسبة لتجربتي مع منظمة الأوبك وبالتحديد في الاجتماعات الوزارية ، وفي اجتماعات اللجان الفنية ، فأذكر بأنني أول ما بدأت ، تشرفت بتمثيلي للمملكة في رسم أول إستراتيجية طويلة المدى للأوبك ، وكان هذه الاجتماعات برئاسة الأمين العام للمنظمة وقتها الدكتور سبروتو ، وتم اعتمادها من وزراء المنظمة في اجتماعاتهم الرسمية ، واضاءت لنا هذه الاستراتيجية المسار الذي يجب على المنظمة سلوكه لتحقيق أهدافها وكانت هذه تجربة ثرية ، أعطت لوفود المنظمة رؤية واضحة فيما يمكن اتخاذه من قرارات .
حضوري أيضا للإجتماعات الوزارية ، أكسبني تجربة لا تتكرر في كيفية عمل المنظمة والدفاع عن مصالحها ، وكان معالي الأستاذ هشام ناظر رحمه الله قدوة لي في إثراء هذه التجربة .
يخلط الكثيرون بين من يعرف جيولوجيا النفط وبين معرفته لإقتصاديات النفط ، وهو الأمر غير الدقيق ، ودائما ما اشبه ذلك بمن يساوي بين ” الصيدلي” ، وبين ” الطبيب” حيث أن الأول يعرف أنواع الخامات وكثافتها، وما يمكن أن تنتج من منتجات وكيفية تحويلها إلى بتروكيماويات وغيرها ، وهذا بطبيعة الحال مجال نقدره جميعاً ، لكنه يختلف عن مهام من هو متمكن في إقتصاديات النفط ، حيث يعرف كيف يتم تداول هذه السلعة محلياً ودولياً ، وماهي العوامل التي تؤثر في أسواق هذه السلعة ، ولماذا هي استراتيجية؟
لذلك عادة ما تخلط دولنا المنتجة للنفط بين وظائف الإثنين ، وتعتقد أن كل من عمل في الشركات النفطية ، يستطيع أن يتصدى للأمور الإقتصادية النفطية والسياسية .
وفي ظل تعقد الأسواق، وظهور الأسواق الفورية والمستقبلية والمضاربات، وتعدد ما يؤثر في العرض والطلب العالميين على النفط ، وبالتالي فاقتصاديات النفط هي علم قائم بذاتهن وبفضل الله إكتسبت الكثير ولا زلت من هذا العلم، وبكل تواضع ، إستطعت إيصال بعض الحقائق للرأي العام والتي كان فيها خلط كبير .
ألقيتعدةمحاضراتفيعدةجهات ،أيهماكانتالأقربلك؟
ألقيت عشرات المحاضرات وقد تصل إلى المئات ، لكن تظل محاضرتي التي ألقيتها في جامعة MIT ، ببوسطن بالولايات المتحدة الأفضل : لكون الجامعة من أفضل الجامعات في العالم ، ولتميز المحاضرة بحضور كل من سمو الأمير تركي الفيصل ، وسمو الأمير محمد بن نواف والذي كان سفير المملكة في المملكة المتحدة.
أيضا فأن موضوع المحاضرة كان عن سوق النفط العالمي ، وركزت بالتحديد على النفط الصخري الذي يتزايد إنتاجه منذ ذلك الوقت ( 2013 ) ، وراهنت وقتها بأن النفط الصخري “وٌجد ليبقى”، وهذا ما حدث مع إنخفاض تكاليف إنتاجه .
مامدىتأثيرالإقتصادفيتكوينشخصيةالدكتورمحمد سالم الصبان؟
أستطيع أن أختصر الإجابة في أنني قد وجدت نفسي في هذا المجال، واستطعت أن أفكر خارج الصندوق متى ما أقتضى الأمر، ووجدت نفسي وحمدت الله أنني قد حولت من مجال الهندسة الذي أن مضيت فيه فسيكون ذلك دون رغبة ، وإنما لأجاري ما تعشقه بعض فئات مجتمعنا، ولكن سيكون دون إبداع .
وربما لم يكن أحد ليعرف من هو محمد الصبان ، كما هو الحال لبعض زملائي الذين كانوا في الهندسة، ولم تكن تلك رغبتهم.
تلوح في ذاكرتي ، منذ بداية رحلتي في هذا المجال ، والتي كانت في تدريسها في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ، أن كنت شغوفا بالإنتقال إلى مجال تطبيقي لإقتصاديات النفط مثل وزارة الطاقة أو شركة أرامكو السعودية أو حتى شركات عالمية في هذا المجال .
ولذلك إنتقلت بعدها مستشاراً لوزير البترول السعودي آنذاك الأستاذ هشام ناظر رحمه الله ، وتدريجيا إكتسبت خبرات لم أكن بإكتسابي لها لو استمريت أستاذاً في الجامعة .
لكني في نفس الوقت وجدت منافسة من البعض شريفة في معظمها ، زادت من تحمسي لكسب المزيد من الخبرات ، ووجدت نفسي في التفاوض الدولي دفاعاً عن المصالح النفطية للمملكة وإندفاع الدول الغربية – وما زالوا – للتخلص من النفط ، وكانت توجيهات قيادتنا لنا بالحفاظ على هذه المصالح بكل إستماتة ، وتحقق ذلك خلال الثلاثين عاما التي قضيتها رئيساً لوفد المملكة لمفاوضات تغير المناخ في الأمم المتحدة ، إلى جانب عملي في أوبك وأوابك منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول .