بدرية البشر
أظنه كان عام 2003 حين أصابتني كوابيس أثناء النوم بسبب مشاهدتي للتلفزيون، حين كانت القنوات الفضائية تتسابق لعرض أسوأ أخبار الحرب على العراق، ومن ثم سقوط صدام حسين. ظننت أنني أعيش لحظة تاريخية لا تتكرر، لم أدرِ أنه بعد 10 أعوام ستصبح اللحظات التاريخية «على قفا من يشيل»، وستقوم الثورات ويسقط عمالقة ظنناهم لا يسقطون. الشاهد أني كففت من حينها عن مشاهدة التلفزيون، بحيث تمرّ أشهر وربما أعوام من دون أن أفتحه. منذ أشهر لاحظت أني أشعر بالسعادة حين أجلس بجانب أحد أفراد عائلتي وهو يشاهد التلفزيون ويمسك بالريموت ويقلبه، لكنني حين أشاهد التلفزيون وحدي أصاب بالكآبة، فاكتشفت أن السبب هو إصابتي بمتلازمة الجهل التلفزيوني، وأني فقدت لياقتي في التحكم بـ «الريموت كنترول»، فالقفز من القناة رقم (1) وحتى القناة (1000) مهارة تفقدها حالما تكف عن ممارستها، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل إن أعراضاً أخرى أخذت تظهر عليّ، فما أن أدخل غرفة أو مكتباً والتلفزيون مفتوح حتى أتسمّر أمامه محدقة فيه من دون توقف، وكأنه يرسل إلى رأسي ذبذبات فيصيبني بالشلل، لهذا أجد نفسي أحياناً أدخل الغرفة لأقول لابنتي شيئاً، فأحدق في التلفزيون وأنسى ما جئت لأجله!
وحين أجلس مع أبنائي أشرب الشاي وهم يتحدثون، أجدني لا شعورياً أتابع البرامج الغريبة التي يسمونها «برامج الواقع»، مثل عائلة «كرديشيان»، فيذهب الأولاد وأبقى وحدي متسمّرة أمام التلفزيون. بالأمس شاهدت برامج أخرى بدأت تستخدم مشاهير آخرين تتابع حياتهم ومشكلاتهم، مثل تلك المذيعة التي قررت أن تنجب طفلاً، وأخذت تتدرب كيف تصبح أماً!
قررت مواجهة الموقف بشجاعة لأفهم حالتي هذه، فما الذي يشد في هذه البرامج التي نشتُمها كل يوم، ولا نطالع فيها سوى نساء منحوتات في عيادات التجميل، يلبسن ثياباً أنيقة، ويضعن مستحضرات تجميل. لا يفعلن شيئاً طوال الوقت، بل يركبن سيارات فاخرة، ويأكلن في مطاعم باذخة، بينما كل ما في الحلقة يغزوك بأنواع الدعايات، من السيارات الفاخرة إلى البيوت والمطاعم والملاعق والسكاكين ومستحضرات التجميل، بينما هم يقنعونك أنك تتفرج على عائلة تعيش واقعها بمشكلاتها اليومية، فيما الكاميرا تتابعهم، فتحدّق مشدوداً في الأخ وهو يبكي، أو في الأم وهي تُطلَّق، أو في الأخت وهي تراجع عيادة الحمل والولادة.
إنه برنامج واقعي بنسبة 100 في المئة، لكن يحضر فيه الأساتذة والمحللون والمدربون الذين يضعون التحليل في إطار بسيط ولكنه علمي.
النهاية تقول إنهم نجحوا في بيعك كل شيء، ولكن بطريقة ذكية، فالواقع لم يكن واقعاً كما يبدو، بل نجحوا في تمثيله عبر حبكة وسيناريو وموضوع يهمك، مثل مشكلات المراهقين أو الأزواج، وضغوط العمل وكيفية معالجتها، ومشكلات التدبير المنزلي، والأخ الضائع والمهمِل، أو أزمة التكيّف مع زوج جديد. لقد نجحوا في صناعة موضوع اجتماعي نفسي يعيشه كل إنسان، ويصعب فهمه من دون هذه المساعدة الحديثة التي تدلّك على أسرار جديدة وتقنعك بها، لقد نجح الأميركيون في بيعك حياة الناس وما تظنه أسرارهم، مع شدّك إليهم. أنا وحدي من أجلس هنا وأحلّل، لكن الجيل الجديد وبخاصة المراهقين مشدودون، بل إن بعضهم يجد في نفسه محبة وولاء لبعض الشخصيات، ويدافعون عنهم. لقد أصبحوا جزءاً من العائلة، فهم يعرفون تفاصيل حياتهم ويعيشونها معهم بعواطفهم، ولكن في شكل جذاب يحترم ذكاءهم.
نجح الأميركيون في بيعك كل جديد وبسعر رخيص، وأظن أن الكوابيس ستعود إليّ مرة أخرى، لا لخوفي من أن ينغمس أبناؤنا في هذا الواقع ويصدقوه، ويحاولوا محاكاته، فبعضه مفيد، بل لأننا وجدنا وسط عالم ذكي سريع ومتحرك، لكننا جامدون، نسأل بأي قدم ندخل المنزل؟ مع أننا منذ الصغر ندخل باليمين!