لقد كان محقاً الخليفة العباسيّ والسياسي الداهية الفذ المأمون حينما أطلق تلك المقولة الشهيرة؛ “بأن الوشاة هم معطليّ العقول”. وتُعرّف الوشاية في اللغة بأنها: نقل ما يكره نقله سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، وسواء كان النقل بالتصريح أو بالتلويح أو الكتابة أو الحركة، وسواء كان المنقول عيبًا أو نقصًا في المنقول عنه أو لم يكن، وذلك بنقل أخبار لا أساس لها من الصحة إلى الناس مع علم المبلغ بزيفها. (مصدر وَشَى). : لاَ تُصَدِّقْ مَا قِيلَ، إِنَّهَا مُجَرَّدُ وِشَايَةٍ : السّعَايَةُ، النَّمِيمَةُ. : لَيْسَ هُنَاكَ أَقْبَحُ ولا أَشْنَعُ مِنَ الوِشَايَةِ. وهي خلق ذميم وسلوك مشين يقطع الأواصر وينشر الفساد ويفرّق بين الناس إن شر الناس ذو الوجهين… الذي يأتي هذا بوجه، وهذا بوجه، وينقل كلام هذا لذاك على سبيل الإفساد بينهما، وقد يتقوّل على أحدهما ما لم يقل، فيجمع بين النميمة والبهتان.
من هنا يتضح جلياً مدى خطورة تقريب الوشاة، والسُعاه حولك وجعل المنظمة، والكيان الذي تعمل به مرتعاً خصباً لساقطي الهمه، وقاتلي الطموح. فهولاء بلا شك هم من يكونون حجر عثرة لتقدم الكثير من المنظمات، والهيئات. يقول نيكولاي ميكافيلي: يحصل المرء على أول انطباع عن قائد وعقله حين يري الرجال الذين يحيطون به. فذكاء أي قائد يُقاس بالأشخاص المُحيطين به. فعندما يكون اختيار الأعوان والمقربين بعناية فائقة جداً بعيداً عن الأهواء، والميول العاطفية تأكد بأن التوفيق والنجاح والتفوق سيكونون حليفاً قوياً لتلك المنظومة. فالعاطفة إذا تحكمت في المرء؛ أفقدته حكمته، ورشده كما تذكر الحكمة الأنجليزية.
وهنا أُشير إلى وصية تاريخيّة قيمة جداً بقيت نبراساً للقادة إلى يومنا الحاضر؛ ألا وهي وصية طاهربن الحسين لأبنه عبدالله حينما ولاه الخليفة العباسيّ المأمون مصر والرقة، حيث وردت في كتاب” الكامل في التاريخ” لمؤلفه أبن الأثير يرحمه الله، وهي وصية نفيسة وثمينة بليغة وطويلة أورد مقتطفاً منها يتعلق بجوهر المقال: واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصِّن من الذنوب، وأنك لن تحوط لنفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأتِهِ واهتدِ به تَتِمُ أمورُك، وتَزْددْ مقدرتُك، وتصلُح خاصتُك وعامتك. وأحسن الظن بالله تستقم لك رعيتُك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم النعمة عليك. ولا تتهِمنَّ أحدًا من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبُرآء والظنونَ السيئة بهم مأثم، فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، ولا يـجِدَنَّ عدوُ الله الشيطانُ في أمرك مغمزًا، فإنه إنما يكتفي بالقليل من وَهْنِك، ويدخل عليك من الغم في سوء الظن بهم ما ينغص لذاذة عيشك، ويُضعف شأنك. وعليك بحسن الظن تزداد به قوة وراحة، ولايمنعك ذلك من التقصيّ، وعدم الغفلة. ويضيف له قوله: واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهله، وأقصِ أهل النميمة، فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب؛ لأن الكذب رأس المآثم، والزور والنميمة خاتمتها؛ لأن النميمة لا يسلم صاحبها، وقائلها لا يسلم له صاحب، ولا يستقيم لمطيعها أمر. وأَحبَ أهلَ الصلاح والصدق، وأعنِ الأَشراف بالحق، وآسِ الضعفاء، وصِلِ الرحِم، وابتغِ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك.
تلك الوصية العظيمة من طاهربن الحسين لأبنه عبدالله؛ جعلت الخليفة المأمون يبعث بها إلى جميع قادة الأقاليم في عهده المزدهر بالعلم والمعرفة المضيئة في ذلك العصر العظيم؛ لما تظمنته من معاني كبيرة، وإرشادات عملية، وعلميّة للولاة والقادة في أقطار العالم الإسلامي المترامي الأطراف في ذلك الزمان.
لذا ينبغي على الباحث عن المجد، والنجاح، والتفوق في هذه الحياة أن يكون حذراً، ويقظاً لذلك الوباء الخطير الذي يُعيق تقدّمه نحو تحقيق أهدافه وطموحاته المستقبلية؛ بإبعاد من يتصفون بتلك الخصال الذميمة المقيته؛ وهم الوشاة، والسُعاه؛ والتي ستجلب له، ولكيانه؛ الويلات والأخفاقات والثبور، جراء خسارته للكثير من اصحاب العقول النيّره المبتكِرة، والأفراد المميزين المخلصين في المُحيط الذي يتواجدون فيه. سُئل علي بن ابي طالب رضي الله عنه مايُفسد أمر القوم يأمير المؤمنين؟. قال ثلاثة:
_ وضع الصغير الغرّ مكان الكبير
_ وضع الجاهل مكان العالم
_ وضع التابع في القيادة، والمقدمة
وختاماً يقول الشاعر الكبير: عمر الخيام يرحمه الله:
عاشر من الناس كبار العقول
وجانب الجهّال أهل الفضول
واشرب نقيع السمّ من عاقل
وأسكب على الأرض دواء الجهول
ويقول المتنبي يرحمه الله:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
وصدّق ما يعتاده من توهُّم
وعادى محبِّيه بقول عُداته
وأصبح في ليل من الشك مظلم
لمن تُطلب الدنيا إذا لم تُردْ بها
سرور مُحبٍ أو إساءة مُجرم
_باحث اجتماعي، ومختص في العلاقات الدولية_