“ثقافة العطور” متأصلة في الشرق، إلا أنها تُشكل عنصرًا رئيسا في المملكة العربية السعودية من حيث العادات والتقاليد والتراث الثقافي غير المادي، وتعكس الهوية الثقافية الفريدة والذوق الرفيع للسعوديين، وهو ما يتوافق مع الإستراتيجية الوطنية التي تعمل تحت مظلة رؤية السعودية 2030.

قبل فترة ليست بالبعيدة، وقع بين يدي كتاب “العطر عند العرب.. دراسة تاريخية فكرية”، للباحث العراقي قيس كاظم الجنابي تنطلق من تمهيد يتوقف عند مفهوم العطر وتاريخه وأصنافه مثل المسك والعنبر والعود والصندل والسنبل والقرنفل والقسط، ليبدأ بعد ذلك برصده في حضارات الشرق القديم، إلا أن أهم ما أبرزه، هو أن مسيرة العطر ارتبطت بالتاريخ، بوصفه وسيلة من وسائل الترفيه، وأصبح تاريخ العطر جزءًا لا يتجزأ من حركة الحياة الإنسانية، وبالتالي جزء من حياة العربي منذ أقدم العصور. لسُت اختصاصيًا ولعًا بصناعة العطور -وإن كُنَّا نعشق أريجها وفواحها جميعًا- بقدر اهتمامنا برصد الحركة التاريخية له كمنتج ثقافي له دلالاته ومرتكزاته الرمزية، وهو المسار الذي نظمت من أجله وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية لـ “معرض عطور الشرق”، في المتحف الوطني السعودي، في “الرياض” المحطة الدولية الأولى للمعرض، بعد أن نظمه معهد العالم العربي في باريس مطلع العام الجاري. من المهم على الزوار الشغوفين بمثل هذه الصناعات، استدراك الدلالات التي ينطلق منها المعرض، والتي يمكن حصرها في عدة عوامل، منها: تقديم قصة ملهمة عن الشغف بالعطور كمنتج ثقافي تجمعه علاقة وثيقة مع موروثنا العربي الأصيل، والإسهام كحالة فنية مغايرة في ربط العطور بالثقافة والحضارة الإسلامية بطريقة مبتكرة، والأهم هو تسليط الضوء على تاريخ الجزيرة العربية باعتبارها مهدًا لحضارة العطور، عندما أغدقت على البشر الطُيُوب حتى شاع استخدامها في الحياة اليومية للإنسان. برأي أن المعرض الذي انطلق برعاية وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، سيقدم للزوار تجربة استثنائية ستأخذهم في رحلة شيقة لاستكشاف تاريخ صناعة العطور في الشرق والعادات والتقاليد والممارسات الاجتماعية المرتبطة بها، لذا صُمم المسار بشكل يراعي التوازن عند التقاء حاستَيّ الشمّ والبصر، حيث تُطلق الأجهزة المبتكرة عطورًا تأخذ الزائر للانغماس في عالم من الروائح الفريدة التي صنعها المصمم العالمي “كريستوفر شيلدريك” خصيصًا للمعرض.
حسنًا فعلت وزارة الثقافة في تنظيم هذه النسخة من المعرض، وهي رسالة ثقافية عابرة للحدود، كما أنها احتفاء بالتراث الثقافي السعودي، وثراء الحضارة العربية والإسلامية، وهي تمهد بذلك رواية العلاقات التاريخية الوثيقة والأزلية بين العالم العربي والعطور، واستكشاف لروائح الشرق المميزة، والإفصاح عن التقاليد العربية التي منحت العطر دوره الاجتماعي.
وإذا كانت “ثقافة العطور” متأصلة -كما ذكرت- في الشرق، إلا أنها تُشكل عنصرًا رئيسا في المملكة العربية السعودية من حيث العادات والتقاليد والتراث الثقافي غير المادي، وتعكس الهوية الثقافية الفريدة والذوق الرفيع للسعوديين، وهو ما يتوافق مع الإستراتيجية الوطنية التي تعمل تحت مظلة رؤية السعودية 2030. هناك من لا يدرك، من أن الذوق المميز في العطور يُعد واقعًا ثقافيًا مهمًا في عالمنا العربي، وحاضرًا في دائرة الأصدقاء والعائلة والأحبة، يستخدمونها للتطيب، والترحيب بالضيوف، أو لإثراء حياتهم اليومية، وهكذا أصبح استخدامها قاعدة أساسية يومية؛ لأنها فعليًا تُعبر أذواقنا الفردية، ومكانتنا الاجتماعية، وهي باختصار المرآة الخفية التي تعكس أعماق شخصيتنا.
أهمية “معرض عطور الشرق”، تكمن في إظهار قيمة العطور في الحضارة العربية الإسلامية وجزءًا من العادات الثقافية والاجتماعية اليومية، إلا أنها تُسهم في انفتاح هذه الحضارة العريقة على بقية الأمم والحضارات من خلال العطور ومكوناتها، لماذا؟ لأن الطرق التجارية القديمة التي كانت تشق الجزيرة العربية وتربط بين الجنوب والشمال، لعبت دورًا مهمًا ورئيسا في تطور صناعة العطور وانتقالها من الشرق الأوسط إلى الغرب. وإذا وجدت العطور الفاخرة اليوم في باريس ولندن وبقية العواصم الأوروبية، فإنه لا أحد ينكر أن منشأها الأول كان في العالم العربي وفي شبه الجزيرة العربية، حيث نجح العرب والمسلمون منذ قديم الزمان في صناعة عطور فريدة من نوعها استطاعت أن تفرض مميزاتها ومكوناتها ووصفاتها في أغلب دول العالم. أخيرًا شكرًا للقيادة الرشيدة، على تفعيل الحِراك الثقافي السعودي بصورة مُلفتة، وما “معرض عطور الشرق”، إلا صورة مُصغرة لمنظومتنا الثقافية العالمية، وأحد مخرجات رؤية السعودية 2030 التي يُشرف عليها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. دمتم بخير.