أعاني مشكلة “النسيان” ودائماً ما توقعني ذاكرتي في مآزق محرجة، وفي مطار الملك خالد بالرياض قابلني أحد الكرماء وكان وجهه مألوفاً جداً، وسألني: ( هل عرفتني )؟ فأجبته: (أكيد معروف عزيزي)، وأنا أحاول في هذه اللحظات أن أضغط على ذاكرتي في استرجاع صورة هذا الرجل من الأرشيف، لكنه أوقعني في الحرج الذي فررت منه عندما فاجأني بسؤاله قائلاً: (من أنا؟) وحينها أسقط في يدي واعتذرت منه والحرج يفيض مني في كل اتجاه معترفاً له بأن سؤاله كان أسرع من ذاكرتي التي لا تجيد حفظ الأسماء.
هذه الذاكرة مزاجية وانتقائية! ففي الوقت التي أتذكر بعض المواقف بتفاصيلها الدقيقة وكأنها مشهد فيديو تتم إعادة تشغيله تجدني أحاول تذكر وصف مكان زرته أكثر من مرة !
والطريف في الموضوع أني أتصل أحياناً بصديقي فوزي اليحيى الذي يمتلك ذاكرة حديدية – ما شاء الله تبارك الله – لأطلب منه أن يعيد القصة التي سبق أن قصصتها عليه، لأسترجع بعض التفاصيل التي نسيتها من القصة !!
“النسيان” شريان مهم في حياتنا، ويخدمنا كثيراً في تجاوز الأشياء التي تضرنا بتكرار تذكرها، وقلوبنا بحاجة لجرعات منتظمة من النسيان كي تعمل بشكل منتظم، وكما يقول عبدالرحمن منيف: (النسيان أسهل طريقة للحياة).
فنحن بحاجة لتناسي بعض الأحداث، لتستمر الحياة بشكل أفضل، و”النسيان” نعمة، لأنه يخرجنا من أسر اللحظات الأليمة، وأذكر هنا مقولة للراحل غازي القصيبي رحمه الله: (مشكلتي الحقيقية ليست كثرة النسيان، مشكلتي كثرة الذكريات).
لذلك أفضل من يفتح صفحة جديدة هو من يمتلك القدرة على طي الصفحات القديمة.
“النسيان الإرادي” هو أسلوب تفكير ومنهجية في إدارة الحياة، وتكمن ميزته في تخفيفه من التزامنا بالماضي تجاه خيارات المستقبل، لذلك يقول جبران خليل جبران: (النسيان شكل من أشكال الحرية)، فمن أراد أن يحرر مستقبله أكثر فليمسك بممحاة النسيان، ليطمس بعض تفاصيل الماضي.
أسوأ أنواع “النسيان” هو نسيان المعروف والإحسان، وهذا السوء ناتج من التدريب الانتقائي للذاكرة، فهي فولاذية في الحقوق ويصيبها الزهايمر في الواجبات، لذلك عند المختلفين تجدنا نسمع لنصف القصة من كل طرف، لأنهم يتذكرون ما يخدمهم فقط.
“النسيان” صفة مدح عندما نتحدث عن ذاكرة الجمل في تخزين المواقف السلبية بقصد الانتقام، وأحيانا يكون “النسيان” على العكس، وما أبلغ أحلام مستغانمي عندما هجت الرجال بقولها: (انسيه كما ينسى الرجال).
من الكوميديا السوداء في “النسيان” أن فقد الذاكرة في أخر العمر مرض ارستقراطي جداً، وهذا الرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريجان يقول عن الزهايمر الذي أصابه: (هذا مرض جميل تقابل الأشخاص أنفسهم، وتظن أنك ترى وجوها جديدة كل يوم).
وفي الختام تذكروا أن نسيان الجميل قبيح، ونسيان القبيح جميل.