• 05:49:49am

أحدث الموضوعات

عزُّ النزاهة خيرٌ من السرور بعطايا الخَلق

تعليقات : 0

أصداء الخليج

د. قيس آل الشيخ مبارك

اشتدَّ الفقرُ برجلٍ من الأنصار، فجاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – يسألُه، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لك في بيتك شيء؟ قال: بلى حِلْسٌ نلبَسُ بعضَه ونبسط بعضَه، وقدحٌ نشرب فيه الماء، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم- : ائتني بهما، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيده ثم قال: مَن يشتري هذين؟ فقال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهم – والدرهم هو المعيار الأساسي الذي كانت العرب تتعامل به في الفضَّة قبل الإسلام، فوَزْنُ الدرهم عندهم سَبعةُ أعشار الدينار، فهو خمسون وخُمُسا حبَّة شعير “2/5 50” أي ما يقارب غرامين ونصف غرام، وإذا كان غرام الفضة يساوي اليوم ريالين ونصف ريال، فقدْرُ الدرهم اليومَ ستُّ ريالات وربع ريال- فقال النبي – صلى الله عليه وسلم -: مَن يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، فقال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما رسولُ الله – صلى

الله عليه وسلم – الفقيرَ وقال له: اشتر بأحدهما طعاما فانبِذْهُ إلى أهلِكَ، واشتر بالآخر قَدُومَاً فَأْتِني به – والقَدُومَ آلةُ النجَّار – فذهب وأحضر القَدُومَ، فأخذه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فشدَّ فيه عودا بيده الشريفة، ثم قال للأنصاريِّ: اذهب فاحتطب، ولا أراك خمسة عشر يوما، فجعل الأنصاريُّ يحتطب ويبيع، وبعد مُضِيِّ المدَّة جاء وقد حصَّل من الاحتطاب عشرة دراهم، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: اشتر ببعضها طعاما وببعضها ثوبا، ثم قال له: (هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ والمسألةُ نكتةٌ في وجهك يوم القيامة، إنَّ المسألة لا تصلح إلا لذي فقرٍ مُدقِع أو لذي غُرْمٍ مُفظع أو دَمٍ موجع) والمقصود بالمُفظع الشديد، وبالدَّمِ الْمُوجِعُ أنْ يَغرَمَ الرَّجلُ ديةً تَلزَمُه بسبب قتل الخطأ، وهكذا دفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الفقيرَ إلى العمل والتكسُّب ولم يتركه قعيداً يتكسَّب بسؤال الناس، ومِن بديع حكمة الزكاة أنها سببٌ للعمل، وليست كما يظنُّ الظانُّون بأنها تُعين الفقير على ترك العمل، ولذلك فإنَّ مَن كان قويّاً قادراً على الكسب وكانت أعضاؤه سويَّةً، فإنَّ الزكاة لا تحلُّ له، ومثلُه مَن كان قادراً ولم يجد عملاً، فهو في حكم العاجز عن العمل كما قال الفقهاء، ففي الحديث: (لا تحلُّ الصدقةُ لِغَنِيٍّ، ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ) والمقصود بالصدقة هنا الزكاة، وقد فرض الإسلامُ على الرجل النفقةَ على نفسه وأولاده، وأمرَه بالتكسُّب ونهاهُ عن المسألة، قال – صلى الله عليه وسلم -: (لأن يأخذ أحدُكم حبلاً فيذهب فيأتي بحزمةٍ على ظهره فيبيعها فيكفَّ بها وجهَه، خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطَوه أو مَنعوه) فالسعي في مناكب الأرض فضيلةُ وعزٌّ، وهو أمرٌ مركوزُ في فطرة الإنسان، قيل لأعرابيٍّ: ألا تستحيي أنْ تكون نسَّاجاً، فقال: (إنما أستحيي أنْ أكون أخرق لا أنفعُ أهلي) وكان سيدنا عمر – رضي الله عنه – إذا نظر إلى رجلٍ سأله: أَلَكَ حرفة؟ فإذا قال: “لا” سقط مِن عينه، ومرَّ يوماً على أبي رافعٍ الصائغ – رحمه الله – وهو يصوغُ ويقرأ القرآن، فقال: (يا أبا رافع، لأنتَ خيرٌ مِن عمرَ، تؤدِّي حقَّ الله، وحقَّ مواليك) ثمَّ إن العبدَ إذا فُتِحَ له بابُ الفهم عن الله عَلِمَ أن طلب الرزق للتعفُّف عن الناس وللنفقة على الأولاد واجبٌ، وأن الواجبَ مقدَّمٌ على نوافل العبادات، كما قال أبو قلابة لرجل: (لأن أراك تطلبُ معاشَك أحبَّ إليَّ من أن أراك في زاوية المسجد) ذلك أنَّ مِن علامات اتَّباع الهوى أن يُسارِعَ المرءُ إلى نوافل الخيرات، ويتكاسل عن القيام بالواجبات، فالأمرُ كما قال أبو سليمان الدارانيُّ – رحمه الله -: (ليس العبادة عندنا أن تَصُفَّ قدميكَ وغيرُك يَقوتُ لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأَحرزهما ثم تعبَّد) فاللهُ تعالى تعبَّدَنا بالصلاة والصيام، وتعبَّدنا كذلك بالسَّعْيِ في طلب الرزق، أما حصول الرزق فمضمونٌ لمْ يتعبَّدنا به، إن شاء أعطى القاعد وإن شاء مَنَع الكاسب، فإذا امتثلَ العبدُ أمْرَ الله بالتكسُّب فقد حصَّلَ الطاعة والغِنَا به سبحانه، فما أعظم النزاهةَ التي عزُّها أشرفُ مِن السرور بعطايا الخَلق ومِنَنهم، فهذه النزاهةُ هي النِّعمةُ العُظمَى التي تُسْلِيك عن دنياك وتَصلُكَ بمولاك، تَصِلُكَ بالحقائق وتَقطعُكَ عن الأوهام والخلائق، لا توجِب ندماً ولا يَعقبها ألمٌ .

qmubarak@hotmail.com

أضف تعليقك

برجاء الكتابة باللغة العربية فقط comments are disable

التغريدات