لم يحمر وجه قطر خجلاً، ولا نطق لسانها بكلمة تكذب أو تنفي أو حتى تشكك ما كشفه موقع “واللا” الإسرائيلي حول اجتماع وزير خارجية قطر عبدالرحمن آل ثاني بوزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، سراً في قبرص في الثلث الأخير من شهر يونيو الماضي بحضور وزير الأمن القطري خالد العطية، وهي الحادثة الثانية خلال أيام قلائل التي تختار فيها الدوحة حالة الخرس الدبلوماسي والإعلامي المطبق، بعد أن كشف “واللا” أيضاً عن لقاء سري جرى في قبرص بين مبعوث قطر إلى غزة محمد العمادي وليبرمان في التوقيت نفسه.
خدعة التطبيع
وليس من الصعب التوصل إلى أسباب عجز قطر عن إنكار ما كُشف حول تباحث مسؤوليها مع الإسرائيليين، ناهيك عن أن يكون لديها قدرة على توضيح موقفها أو تبريره؛ فعلاقات قطر بإسرائيل متجذرة منذ أكثر من 30 عاماً، واللقاءات السرية لمسؤولي الجانبين موثقة، وهناك من أتى على ذكر تفاصيلها في كتب، لتحفظ ضمن مدونات الذاكرة المكتوبة لتاريخ تلك العلاقات، كما أنها لا تستطيع مواجهة إسرائيل في نفي اللقاءين، لتأكدها أن تل أبيب لن تتردد في تقديم ما يثبت صحة ما سربته.
وما يلفت الانتباه في العلاقات القطرية الإسرائيلية، هو خداع قطر لشعبها والرأي العام العربي، بأن إقدامها على إقامة علاقات مع إسرائيل إنما جاء تجاوباً مع دعاوى “التطبيع”، التي هبت على المنطقة، في أعقاب مؤتمر مدريد لإحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية في أكتوبر 1991، واتفاقية أوسلو للسلام الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في مدينة واشنطن الأمريكية في 13 سبتمبر1993، في حين تكشف الرواية الإسرائيلية، أن إقامة الدوحة للعلاقات مع تل أبيب انطلق من أسباب ترتبط بأوضاع الحكم في قطر عقب الانقلاب الذي أطاح فيه أمير قطر السابق حمد بن خليفة بوالده في يونيو 1995، وحاجة الحاكم الجديد إلى تثبيت دعائم سلطته من خلال الدخول في علاقات متطورة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
خيانة الإجماع
ويمثل رئيس أول مكتب لتمثيل المصالح الإسرائيلية في الدوحة، ومؤلف كتاب “قطر وإسرائيل ملف العلاقات السرية”، سامي ريفيل، أهم مسؤول إسرائيلي يؤخذ بروايته عند التعرف على أهداف قطر من إقامة العلاقات مع إسرائيل، باعتباره من الشخصيات التي أسست تلك العلاقات على أرض الواقع، خلال إقامته مع أسرته في الدوحة لمدة ثلاث سنوات، وتوليه مهمة الاتصال بالمسؤولين القطريين، الذين أفصح في كتابه عن مستوياتهم، موضحاً أنهم “كانوا من الشخصيات الرئيسية في قصر الأمير (حمد بن خليفة)، ووزارة الخارجية القطرية، وكبرى الشركات القطرية”.
ويصف “ريفيل” موقف الدول العربية من مسألة الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات معها خلال الفترة التي أقدمت فيها قطر على ذلك، قائلاً: “حتى تلك الفترة تميز الموقف العربي بقالب واحد يقول: إن إقامة علاقات بين الدول العربية وإسرائيل مشروط أولاً وقبل أي شيء بحل جميع المشاكل بين إسرائيل والفلسطينيين”.
وفي مقابل يأسه من قوة الموقف العربي، يُقيم موقف قطر بالقول: “إنه بفضل الاستعداد القطري للانحراف والخروج عن السياسة التي تبنتها جاراتها تجاه إسرائيل، نشأ مسار جديد ومهم بين المسارات الكثيرة التي فحصتها إسرائيل في تلك السنوات مع العالم العربي”، وهو يشير في تعليقه إلى خروج قطر عن الإجماع الخليجي والعربي في تلك المسألة، وهذا التوجه الذي وصفه بـ”الانحراف” بدأ ترسيخه في السياسة القطرية منذ انقلاب 1995.
حيل الترويج
وعن السبب الحقيقي لتوجه قطر إلى إقامة علاقات مع إسرائيل، يربط ريفيل على نحو لافت بين استيلاء حمد بن خليفة على الحكم -الذي وصفه بأنه “تغير داخلي بعيد المدى”- وبين إقامة العلاقات مع إسرائيل، ويقول: “بدأت التطورات المهمة في العلاقات بين إسرائيل وقطر، مع التغيرات الدراماتيكية التي شهدتها سياسة قطر في أعقاب صعود الأمير الجديد إلى الحكم”.
إلا أنه يشير إلى توجه متزامن آخر لحمد بن خليفة عقب انتزاعه الحكم من والده، قائلاً: “في نفس الوقت جاء الطموح المتزايد للقيادة القطرية الجديدة، ليعبر عن نفسه بوضوح على الساحة الدولية، وبدا ذلك واضحاً في البداية في تودد قطر المتكرر للولايات المتحدة الأمريكية، بسبب الدور الأمريكي الرئيسي في ضمان الأمان الطبيعي والاقتصادي لها خاصة”.
ويكشف ريفيل حيل وأساليب النظام القطري الجديد في ترويج العلاقة مع إسرائيل للقطريين موضحا أن: “تلك الفترة تميزت بدرجة كبيرة من الشعور بالمبالغة والتهويل في كل شيء، وكان ذلك واضحاً في تصريحات حكومة قطر، وفي دوائر رجال الإعمال والإعلام، وفي الحديث عن صفقات بيع النفط لإسرائيل، وعلى إمكانية مشاركة صناعة البتروكيماويات الإسرائيلية في مشروعات كبيرة جرى التخطيط لها في قطر، وعن إقامة مزارع مشتركة لزراعة المحاصيل في أجواء صحراوية”.
اختراق الخليج
ويوثق ريفيل أجواء حفل الاستقبال الرسمي لرئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز في زيارته إلى الدوحة في 2 أبريل 1996، التي وصفها بـ”التاريخية”، قائلا: “حظي بيريز باستقبال رسمي كامل في مطار الدوحة، تضمن التحية العسكرية، ورفع العلم الإسرائيلي، وعزف فرقة الموسيقى العسكرية القطرية للنشيد الإسرائيلي، هتكفا”، ثم يشير إلى استقبال آخر لبيريز في قصر أمير قطر حمد بن خليفة وصفه بـ”الفاخر والرسمي”.
أما عن الانطباع الذي تركته الحفاوة القطرية في نفوس أعضاء الوفد الإسرائيلي، فيوضح ريفيل أن “زيارة قطر تركت انطباعاً لا ينسى بين أعضاء الوفد الإسرائيلي، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، وكان الاستقبال الحار على أفضل ما تقضي به التقاليد في دول الخليج”.
ولم تكن الفرحة العارمة للوفد الإسرائيلي بالاستقبال هي كل مكسب إسرائيل من الزيارة، فما أوضحته شهادة ريفيل يفيد بأن تلك الفرحة كانت تعبيراً عن نجاح إسرائيل في خلق مسار إستراتيجي يحقق لها هدفين، الأول، إتاحة قطر لإسرائيل اختراق منطقة الخليج والتمتع بوضع رسمي فيها، والعنوان الأصلي لكتاب ريفيل في اللغة العبرية “إسرائيل على جبهة الخليج العربي”، يشير بوضوح إلى ذلك الهدف، كما أن كلمة “جبهة” تعكس الجانب العسكري الذي يعتقد الإسرائيليون أنهم حققوه في عملية إقامة علاقات رسمية مع قطر.
أطماع الثروة
ويتمثل الهدف الثاني لإسرائيل من مسار العلاقات مع قطر في الاستحواذ على جزء من ثرواتها الطائلة -التي وصفها ريفيل بـ”خزائن الذهب”- وضخها في الاقتصاد الإسرائيلي، ومن المشاريع التي أعلن عنها بالفعل عقب الزيارة، مشروع للغاز المسال بين قطر وإسرائيل والأردن بقيمة خمسة مليارات دولار.
وطيلة 32 سنة منذ بدء العلاقات رسمياً بين قطر وإسرائيل، لا يزال هذين الهدفين يتمتعان بوضعية مركزية في سياسة إسرائيل تجاه الدوحة، ويتضح أثر أولهما في تعمد إسرائيل الكشف عن الاجتماعات السرية لمسؤوليها مع الوزراء والمسؤولين القطريين، في محاولة للضغط على الدوحة ودفعها إلى إعادة العلاقات الرسمية التي جمدتها عام 2008 بسبب الحرب الوحشية التي شنتها على غزة، وبذلك تستعيد تل أبيب موطئ القدم الذي منحتها إياه قطر في الخليج.
ولا تزال أطماع تل أبيب في ثروة قطر تحتفظ بعنفوانها، وتعبر عن نفسها في تلك اللقاءات السرية، ومن ذلك طلب المسؤولين الإسرائيليين في اجتماعاتهم المتكررة مع المبعوث القطري إلى غزة محمد العمادي في داخل إسرائيل وقبرص بأن تساهم قطر في تحسين الأوضاع الاقتصادية في غزة لتخفيف الضغوط الدولية عن إسرائيل نتيجة الحصار الذي تفرضه على القطاع منذ عام 2006.