بتال القوس
في الـ 22 من شباط (فبراير) 2013، اختزلا بخيبتهما مساحات الكون الشاسعة، كل منهما لم ينبس ببنت شفة في وجه الآخر. قسمات الوجوه يشكلها الألم، تحكي بصوت مبحوح خنقته الخسارة، الحزن يسيطر على زمام الأمور، مسيرة نصف عام اقتسما فيها كل شيء، الأماني، العمل، الطموحات، الضحكات والابتسامات، ولا مفر من اقتسام الحزن الليلة أيضا.
الشاب السعودي الأربعيني الذي تولى إدارة النادي الأصفر العريق، يمني النفس قبل المباراة بالعودة بأصفره إلى عهوده الماضية، واللاتيني الأربعيني يشعر بذلك ويحترمه، يحترمه كثيرا، لقد عاش الأحاسيس ذاتها والمشاعر نفسها من قبل مع أول ناد دربه مونتفيديو واندرز، في نفسه استقرت أمنية، “أن يكون الرجل الذي تعود على يديه قافلة النصر إلى دروب الذهب”.
ابن مونتفيديو الأورجويانية – ثاني أصغر بلد في أمريكا اللاتينية، والمصنف في قارة الثوار والعصابات والنساء والمال والغرائب وكرة القدم، بأنه الأقل فسادا بحسب منظمة الشفافية الدولية، عاد إلى منزله بعد احتفالات النهائي المخيب للآمال، يجرجر قدميه، لا يقوى على رفعهما عن الأرض، ألقى بنفسه منهكا، فتح التلفاز المقابل له، كان يعرض تسجيلا للمواجهة ذاتها التي خلفت كل ما هو فيه الآن، فجأة نهض، وكأن سلكا من الكهرباء وصل بأطرافه ومده بطاقة جديدة، انتصبت ركبتاه أمام صدره ويداه تطوقانهما، بدأ في متابعة المباراة التي انتهت للتو، يدون في ورقة صغيرة أمامه بعض الملاحظات، قبيل النهاية، امتد يده إلى هاتفه المحمول، وكتب رسالة إلى الأربعيني السعودي رفيق الحلم والمرحلة: في قابل سنكون مكانهم في المنصة، أعدك، يجب أن نستمد قوتنا من هذه الخسارة.
.. في الجهة الأخرى من الهاتف، كان الشاب السعودي الممتلئ وجعا من ليلة الحلم الضائع، لا يعرف كيف تبخر كل شيء، وضاع الطريق إلى الذهب. بلا جدوى أصدقاؤه المقربون يلتفون حوله يحاولون تطبيب ما انشرخ في داخله، ليلة طويلة استعاد فيها كل شيء، وتناسى كل الخيبات إلا خيبة الثاني والعشرين من شباط (فبراير).
حين قرأ رسالة صاحبه اللاتيني شقيق الحلم والطريق، ارتسمت ابتسامة مقتولة على شفتيه، ورد بحزم: كل ما تحتاج إليه الموسم المقبل سيكون لديك، لن أصعد المنصة خلفهم في العام المقبل.
.. اثنا عشر شهرا مرت، على تلك الليلة، لم يندمل جرحها، ولم تغب تفاصيلها عن ذاكرة الشابين الأربعينيين، اثنا عشر شهرا كان فيها السعودي، يسكنه بركان هادئ ينتظر لحظة يعود فيها إلى النشاط ويقذف بكل الحمم الكامنة فيه. أمضى رفيق الحلم السعودي أيامه الآتية أكثر التصاقا بصديقه اللاتيني ذي الشعر المجعد، اقترب منه أكثر، جلس إلى جواره في كل المباريات، ناقشه، استمع إليه، وعندما كانت عيني كل واحد منهما تقع في عيني الآخر مباشرة، كانا يقرآن شيئا لا يقرأه غيرهما، شيئا مشتركا يسكنهما. في مرات كثيرة كان يطلب منه أن يرافقه في سيارته بعد التمارين، حتى يكملا حديثهما الموصل إلى الحلم المنتظر.
اثنا عشر شهرا مضت، وكأن لياليها كلها نسخة واحدة من الثاني والعشرين من شباط (فبراير)، حتى جاء الأول من شباط (فبراير) نفسه، ليلة المباراة، بعث الشاب السعودي الأربعيني سليل العائلة المالكة فيصل بن تركي إلى صديقه اللاتيني ابن مونتفيديو دانيال خوزيه كارينيو رسالة هاتفية كتب فيها: “لن نخسر، لن نصعد خلفهم، سنأخذ كأسهم، أثق فيك يا صديقي”. جاء الرد سريعا جدا: “لن نخسر، لن نصعد خلفهم، سنأخذ كأسهم، أثق فيك يا صديقي”.
بعد الصافرة الختامية، فيصل يحتضن وجه كارينيو براحتيه، ودانيال يحتضن وجه فيصل براحتيه، المشهد كله دهشة للمجاورين لهما، لأن الرجلين الاثنين يتحدثان في اللحظة نفسها، نعم كانا كذلك، الاثنان كانا يقولان معا: “لم نخسر، لن نصعد خلفهم، أخذنا كأسهم، تهاني يا صديقي”.