• 02:26:47pm

أحدث الموضوعات

قراءة في ديوان بحتري الباحة (ريشة من جناح الذّل)

تعليقات : 0

أصداء الخليج
جدة :عبدالله الدوسي

قدم الأستاذ الدكتور محمد صالح الشنطي أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة حائل قراءة نقدية موسعة للديوان الشاعر حسن بن محمد الزهراني رئيس النادي الأدبي الثقافي بالباحة (ريشة من جناح الذّل) وقال الشنطي
اعتدنا على أن نقرأ قصائد كثيرة في رثاء الزوجة ،قديما وحديثا ، وهناك العديد من الدواوين الشعرية التي خصّصها الشعراء لرثاء زوجاتهم ، واطّلعنا على كم وافر من الشعر في الأم وفضلها ودورها و الحزن على فراقها ، فقد كتب الشعراء الكبار منذ عهد الأحياء و البعث أمثال شوقي وحافظ إبراهيم قصائد ومقطوعات شعرية، وكذلك فعل بعض الشعراء الوجدانيين أو الرومانسيين من أمثال أبي القاسم الشابي وأضرابه ، وشعراء القصيدة الجديدة ، مثل نزار قباني و فاروق جويدة و غيرهم ؛ ولكننا لم نقرأ قط ديوانا كاملا في رثاء الأم و الوفاء لها على نحو الديوان الذي سطّره الشاعر حسن محمد الزهراني بدموع عينيه و مداد قلبه وفاء لأمه الراحلة تغمّدها الله بواسع رحمته : ديوان كامل بعنوان ( ريشة من جناح الذل)

*العنوان – مفارقات التشكيل و التأويل

يحيلنا العنوان منذ البداية إلى مرجعين : الأول كتاب الله العزيز في سياق البر بالوالدين ” واخفض لهما جناح الذل من الرحمة” و نفهم من هذا السياق أن هذا الديوان وفاء لوالدته كما أوصى بذلك رب العالمين ، وأنه لا يبلغ المدى الذي طلبه الله (منا عز وجل) بل هو بعض مما ينبغي أن ننهض به ، وهذا يمثل شعريا ذروة الشعور بالتقصير و العجز عن الوفاء معبرا عن إحساس الشاعر الذي يذرف الدمع لافي كل لفظة من ألفاظه و في الوقت ذاته يبلغ به الحب للفقيدة حد الفناء ، مفارقة هي جوهر الفن في الشعر ، أما المرجع الدلالي الثاني فهو ما دار بين أنصار القديم و المحدث في تاريخنا الأدبي و النقدي ؛ إذ سمع أحدهم قول أبي تمام:

لا تسقني كأس الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي

فقال له ، فأتى له بقارورة وطلب منه شيئا من ماء الملام فرد عليه بقوله “أعطني ريشة من جناح الذل” في إشارة إلى الآية السابقة ، ولكن السياق يدل على المعنى الأول على الرغم من أن التأويل قد يلامس أفق المنى الذي أراده الشاعر ؛ فهو يشير إلى أنه ذهب بالاستعارة مذهبا بعيدا يتعالى على المألوف آنذاك إذ كان يشترط في المماثلة بين المستعار منه و المستعار له حدّ التطابق ، بينما يمكن أن تتسع هذه الاستعارة للتأويل ، فقد ذهب الشاعر في تصوير حزنه إلى درجة التجريد الذي ذهب إليه أبو تمام فبلغ قمة البلاغة في تجسيد المعنى و تجريد الدلالة ، وهذا لون من ألوان التناص القائم على الامتصاص و التحويل أي إعادة إنتاج المعنى و توجيهه الوجهة التي يقتضيها المقام ، ويوحي العنوان برؤية الشاعر الكلية في الديوان ؛ فهو ليس عنوانا لإحدى قصائده كما تعوّدنا في كثير من دواوين الشعر؛ فالديوان يتألف من ثلاث عشرة قصيدة تدور كلها حول ( الأم) إحساسا عميقا بافتقاد حضورها ملء الروح و القلب و الجوارح ،وحزنا عليها واستذكارا لمواقفها و مناقبها (رحمها الله)

*الإهداء – اشتعالات الفقد و الحرمان

و منذ الإهداء يطل علينا الشاعر بمواجده واشتعالاته وإحساسه بالفقد والحرمان ، فهو يبدأ بالشمعة رمزا للفقيدة ، وهي في الوجدان الشعبي مبعث النور الذي يبدد الظلام ويهدي المدلجين في عتمة الدروب .

ظواهر أسلوبية ومفاهيم فنية

وتتبدّى الظاهرة الأسلوبية الأولى ممثلة في تكرار النداء الذي يليه استعارة يصرح عبرها بما تمثله الأم في وجدانه ، فهي شمعة تارة ، و بسمة تارة أخرى و وردة تارة ثالثة، و بلبلا غرّيدا حينا، و نحلة معطاء حينا آخر، وكوثرا و نخلة وملجأ و ملاذا ، وأداة النداء بما فيها من مدّ تعبّر عن قلب ملتاع يكاد يجأر بالبكاء ، فيستهل الشاعر القصيدة بصيغة( الندبة) ويكرّرها ، فهي توحي بالآهات التي تتصاعد من أعماق الشاعر:

أماه يا شمعة بالحب تأتلق

لكي تضيء حياتي و هي تحترق

أماه يا بسمة تحيي رفات دمي

إذا استبدت به الأحزان و الحرق

فتتكرر الآه في مبتدأ كل بيت تعبيرا عن أسى يمتح من أعماق الروح ؛ أما أداة النداء للبعيد فالمد فيها يوحي بأن الشاعر يستلّ اللوعة من أنياط القلب و شغافه.

ولم يكن النداء المتكرر و المفردات المجازية ف هي التي تعبر عن ألمه و حزنه فحسب ؛ بل هناك الكثير من الصيغ الطلبية و الخبرية المتكررة التي تشي بحجم اللوعة و الشجن ، من هذه الصيغ جمل كم الخبرية ، وهي ليست مجرد أسلوب تقريري بل يحمل معنى التكثير الذي يتداعى في غزارة إلى الذاكرة و الوجدان إقرارا وعرفانا بالفضل العميم للأم ، وهذه الصيغ تستجلب موارا عاطفيا في مرجل القلب ولواعج الصدر و يرتاد العوالم الداخلية و يجوس خلالها :

كم ليلة من ليالي العمر داجية

تنام عيني و يضني عينك الأرق

وكم سكبت دموع الشوق ساخنة

مدى غيابي وأدمى طرفك الأفق

وثمة صيغ استفهامية حائرة يتسع مدى الإحساس فيها عن العجز بالوفاء للأم إلى مداه، وفيها تشوّف إلى البر بها عزّ نظيره وتوق إلى الوفاء ندر مثيله ؛ ومن المعروف أن كثرة الصيغ الطلبية في القصيدة تومئ إلى تأجج الانفعال فهي توق إلى بحث دؤوب عن مخاطب يشارك الشاعر في عبء مشاعره الفياضة التي ينوء بها وجدانه ويحار فيها جنانه ، و لا يكاد بيت يخلو من هذه الأساليب فضلا عما فيها من تشابك الحقول الدلالية وأخذ بعضها برقاب بعض ؛ حيث تتفاعل ثنائيات الحب و الشوق و الحرقة و الألم والغناء و الشجن والحنان والرقة والأزهار والثمار والشفق و الفلق و الضياء و الألق و الخوف و القلق و الأنفاس و الحدق و النطق و الفرق ، ضرام من العواطف تشتعل بها مفردات القصيدة فتذكي لهيب العواطف و احتشاد الذكريات والمواقف في غنائية حميمة و أشجان فيّاضة.

*تجليات المجاز وشفافية البوح

تتوالد المجازات في تجليات متدفقة وتسلسل عذب ، وإن بدا أن هذا يتجاوز لغة النقد و يحلق بعيدا عن مداراته ، فالقراءة تهميش على النّص وتفيّء لظلاله ترصد أصداء التّلقي الذي تنفتح آفاقه على عوالم القصيدة الفسيحة وترتاد مجاهلها .

في سلاسة (البحر البسيط) وتحدّره عذوبة المناجاة وأطيافها التي تتراءى خفيّة تتلامح في عيون المشوق وهمس الحنين ووله الحزين الذي يعلل قلبه الكسير على ضفاف الألم , وبعد هذا البوح الشّفيف تأتي المحطة الأخيرة تركن إلى سكينة الاعتذار و التعبير عن العجز في فناء للذات بكل حمولتها العاطفية مستسلمة سخيّة بكيانها وروحها ومشاعرها فيما يبدو وجدا أقرب إلى أن يكون توحّدا صوفيا ليغزل الشاعر الخيط الأخير في نسيج القصيدة التي تتناسج فيها العلائق بين عناصر النص بمفرداته ذات الدوائر الدلالية المتواشجة و التراكيب الطلبية و التقريرية المتآزرة في إحكام وجداني وتماسك يعبر عن أهم عناصر هويّة النص ممثلة في السبك الذي ينبثق عنه هذا التصاعد في الانفعال ليبلغ ذروته عبر حبك متقن في تسلسل متنام وفق قوانين النص التناظري الذي يظل وفيّا لعوالمه الخاصة :

لك الفؤاد الذي أنت الضياء له

لك المشاعر و الأنفاس و الحدق

في جل قصائد الديوان يلمس القارئ حجم الفاجعة التي حلّت بالشاعر بعد وفاة أمّه الرؤوم من خلال العبارات الاستعارية أو المفردات الوامضة أو الثنائية الضدية أو الأسئلة الحائرة أو إنكار واقعة الموت .

*عناوين القصائد ومؤشرات السيمياء

وميض المفردات

أما المفردات الوامضة فتتمثل في قصائده الثلاث : الشمعة وإنصات و اندهاش ، وقد سبق مقاربة قصيدة (الشمعة) ؛ أما (إنصات) فهي مقطوعة شعرية تمثل دفقة شعورية في لحظة بات القضاء فيها محتما ، فكان اختيار القافية العينية معبرا عن لواعج قلب محزون ودموع تنثال من هول المصاب ؛ فالعنوان فيه معنى الصمت و الخشوع و القبول بحكم الله و قضائه والإنصات لمشيئته وأما الهاء السكنة فهي الآهة المكبوتة الحبيسة .

تتحول القصيدة إلى مشهد يتجاور فيه المرئي و المسموع و السكون و الاحتدام و الإنساني و الكوني ، يبدأ هذا المشهد بالتقابل بين الإثبات و النفي: وجهان متقابلان لحقيقة الحقائق وهي حضور الموت وانتفاء الأمل في البقاء .

يعقبه مشهد حزين يتمثل فيه الشاعر وقع المصاب عبر صورة مكبّلة بدموع البكاء في حركية تتمثل في قوله( دمعة في إثر دمعة )، حركة يلفها الصمت أبلغ تعبير عن لوعة الشجن ، ثم يتصاعد الشعور بالفقد فيتجاوز الذات ليشرك الكون كلّه الذي لفّه الحزن و أخذ عليه السبل من أقطارها : صورة كونية يتفاعل فيها مع الذات المصابة، واستدراك في غمرة الحزن بالتسليم لخالق الموت و الحياة الرحمن الرحيم ، ثم ارتداد إلى الداخل ورصد لواعجه التي استعلنت نبضا حارقا في قلبه ؛ وإذ يبدأ بالنفي ينتهي به لتصبح هذه الدفقة تعبيرا عن حالة كرب شديدة:

ضاقت بي الدنيا وغادرت

الأماني دون رجعة

لم يبق لي هذا المصاب

مسرّة ترجى و متعة

أما (اندهاش) هذه المفردة النكرة التي ينطلق المعنى من إطار التحديد لتسبح الدلالة في فضاء التجريد فهي مقطوعة أخرى ، فهي تمثل امتدادا للحظة الصدمة في (إنصات) دفقة شعرية أخرى أثارها مشهد تال لمشهد الفقد ممثلا في الرحلة إلى المثوى الأخير محمولة على الأعناق ؛ فهي من أكثر اللحظات فجيعة لأنها اللحظة الفاصلة بين الحضور و الغياب ، من هنا كان الاندهاش الذي يصيب النفس بالذهول هو المهيمن ؛ حتى إن الشاعر ليستخدم (الشين) حرفا للروي امتدادا لهذا الاندهاش الذي لم يفارقه في هذه اللحظة، فجاءت القصيدة في صورة لقطة حيّة تجسد فيها الموت عبر النعش المحمول على أعناق الرجال ، وجاءت الصورة لتستحضر الأمس متلازما مع اليوم، وترصد التحولات المتسارعة في مشهد لم يغادر مخيّلة الشاعر قط فباح بوحا مباشرا بأحزانه التي هيض جناحه بسببها، فلم يعد قادرا على الاحتمال فكان مشوّش الذهن و الخاطر ، تبدّى ذلك في حرف الروي الشين الذي يوحي بالتشويش و الاضطراب و الذهول :

لقد جادت بغزر الدمع عيني

وصرت لكثرة الأحزان عاشي

*العناوين المزدوجة

أما العناوين الثنائية فتتمثل في قصائد ثلاث أخرى (النار و البرد) و(الوردة البيضاء و الدوامة) و ( لا أنت مت و لا أنا حي )

في القصيدة المعنونة ب (لا أنت مت و لا أنا حي ) إحساس ثقيل بالزمن في توقّفه عند لحظة الفقد لم يغادر فيه الشاعر المربع الأول للحزن ، فهو على تخوم الحياة و الموت ، هذه المرحلة الغسقية التي يذهل فيها المرء عن نفسه و يظل محاصرا بأشباح الفجيعة نتاج صدمة مذهلة عبّر عنها الشاعر في هذه القصيدة ، وهذا يفسر التكرار المنتظم داخل الجزء الأول من القصيدة لمفردة (شهران) ، وهذا يستدعي تلقائيا نص نزار قباني في رثاء أمه :

مضى عامان يا أمي

على الولد الذي أبحر

برحلته الخرافيّة

وخبّأ في حقائبه

صباح بلاده الأخضر

ولم تأت هذه التثنية عبثا فهي توحي بالتعلق بين اثنين الأم و الشاعر ، لقد تكررت هذه اللفظة على هذا النحو المنتظم ( بيتا تلو الآخر) تسع مرات ، وتعبير آخر رافد لها في إشارته إلى الديمومة تكراره لهذه الصيغة :(ما زلت و لم أزل) ست مرات ، استمرارية الشعور بالفقد ، ويردف ذلك جملة الحال فيكتمل التعبير الثلاثي الذي ينسج الرؤية الدالة على مصاب الشاعر و الأزمة التي مر بها ، و النفي في العنوان دال على انعدام الاستقرار النفسي وفقدان السكينة فضلا عن جدل الموت والحياة عبر النفي الذي يطال كليهما معا.

أما الاستفهامات الموجهة للأم الراحلة فهي في مساءلة للذات التي تتماهى مع روح الفقيدة ، وبالتالي تبدو أقرب إلى الحوار الداخلي ، يسأل و يجيب معبّرا عن حرقة الألم ، هذه الظواهر الأسلوبية تتآزر مع سلسلة الصور الوامضة التي يستلّها من الذاكرة و يعيد إنتاجها في صور مجازية وامضة : (الاغتباق من غدير الهم) حيث التراسل بين الهم و الغبوق تناصّ مع التراث غبوق من الشراب (شراب المساء ) ، والقافية الخرساء وانصلات البؤس سيفا مشهرا، والقلب المحترق و قبو الخوف و نار البكاء والصبر الغارق و الحب العذب و بهو الروح و نور الحب وشروق العينين ومسامرة البدر ، والأنفاس الشجن والأوتار الألق و الحب المرفرف و الفراق المر، ورؤيا المنام ؛ كل تلك الصور البيانية المتراكمة من شأنها أن تحدث هذا التحول الكيفي في وعي المتلقي ، وهذه الملامح تتأزر لتنسج شعرية النص وتعبر عن وحدته.

أما (النار والبرد) هذه الثنائية الضدية في عنوان القصيدة فهي تقترب من تخوم المفارقة بمفهومها الجمالي وإن بدت طباقا في المصطلح البلاغي التقليدي؛ ففي الرثاء العربي التقليدي ضروب ثلاثة : التفجع و التأبين و الحكمة ، والشاعر حسن الزهراني في هذا الديون نثر كنانة اللغة بين يديه واختار من مفرداتها و تراكيبها ما يعبر عن عميق لوعته على الفقيدة أمه مازجا التأبين بالتفجّع الشجيّ ؛ وهذان اللونان من ألوان الرثاء تجاوزا عنده الغرضية التقليدية فانصهر في بوتقة الألم وطاف بأرجاء الكلام كلها يقبس من نيران الفجيعة و يذكي لهيب الشجن ، فتداعت الأمكنة والأزمنة واستعاد الشاعر النص القديم في احتفائه بالمكان الذي بدا في عمق الذاكرة خيالا زائرا ، و ليس مجرد أطلال دارسة كما كان عند الشاعر القديم :

تذكرت في وادي نخال اجتماعنا

زمان التصافي صاغ أنغامه الود

ولما كان الزمان ملازما للمكان فقد أعاد اليهما اللحمة القديمة عبر هيجان الذكرى و ثوران الذاكرة ، والشاعر إذ يستذكر الزمان و المكان يحلّق في فضائهما محاولا استرجاع ثالثهما وهو الإنسان ممثلا في الأم الراحلة التي هي رفيقة روحه، فتتوازى هذه الثنائية الإنسانية مع تلك الثنائية الكونية ، ولما كان الشاعر يختزن قي مذخورة الوجداني أطراف العشق يلتبس الأمر على الرفاق فيغرونه بالمرح و الفرح ؛ ولكنّه يتأبّى عليهم في حجاج عاطفي ملحاح فتنثال المعاني المطلقة على لسانه ( العهد والوعد و الود و الحزن و اللوعة و الحسرة و السعادة وز المنى و الظلماء و الحسرة و الهم و السهد والبرد و البعد) هذه الكثافة لفضاء المطلقات تفضي إلى عمق المتلقي في إلحاح .

لقد عزّز الشاعر إحساسنا بمدى ما يعاني استدعاؤه لرائية أبي فراس الحمداني في قوله:

فقلت لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر

في قوله:

مضى نصف عام لم تر العين وجهها

بعد غدٍ وعدٌ على ثغره وعد

ففي مثله ماتت لتترك مهجتي

تقول و قد أزرى بها بعدها البعد

ولعل الأسلوب الأبرز في التراكيب بعد تلك الظواهر التي أشرت إليها جمل الحال المتعاقبة التي تأتي في سياقها الصور المجازية على نحو متواتر ، ثم تأتي القفلة الختامية بمثابة عود على بدء ، فهي تبدو جماع الحالة الشعرية برمّتها منطوية على المفارقة التي يجتمع على صعيدها الموت والحياة ، فالميت حي و الحي ميت لا أنت مت ولا أنا حي ، ولكن دقة التعبير و أفق المفارقة يذهب بعيدا في نفي الموت عن الأم ، و ينفي الحياة عن نفسه فلا يثبت شيئا؛ و لكنه يدور في فلك النفي وهنا يكمن الصدق الفني الذي تنبثق منه الحقيقة حاملة صدق المقولة ، فالحب منح الحياة للأم رغم موتها و الحزن حرم الشاعر من الحياة رغم أنه على قيد الحياة :

لا أنت في زمرة الأموات ميتة ،

ولا حياتي مع الأحياء تتفق

أحياك حبي وأودى بي على عجل

فراقك المرّ والآهات والأرق

وفي هذا الإطار تأتي قصيدته ( من الثرى إلى الثريا ) خطاب مضمخ بالدمع من الذات الشاعرة إلى الرمز الذي يتألق كالثريا أيقونة الكينونة في تساميها و رفعتها، فيما يتعلق بها :أطراف ثلاثة تتعالق في القصيدة ويؤطرهما هذا الخطاب ،الأم وهي الثريا وهنا يغوص الشاعر في أعماق الذات ليستخرج لؤلؤة القلب فتسمو به إلى أعلى حيث الثريا التي يضرب العرب فيها المثل في السمو و الرفعة “شتان بين الثرى و الثريا” وهي بؤرة تشعّ بالإيحاء لما تخنزنه من دلالة اكتسبتها من ذلك التراث الزاخر من النصوص بمرجعياتها المختلفة ” أنا الثريا و ذان الشيب و الهرم” ، ثم هذا الالتفات إلى العذول اللائم الذي انطفأ في قلبه شعلة المشاعر فهو الجاهل ، وكان الأحق أن تلام العين لو لم تبك؛ بل كان حقها أن تكوى بالنار، و بين لوم ولوم تكمن المفارقة و تتسع الفجوة التي تفضي بهذا الاشتعال العصي على الانطفاء إلى أن تصل بنا القصيدة إلى هذه الخاتمة التي تصدع بحقيقة الحقائق ولب الألباب في صورة فنية مشعّة تختزل الزمن وتمنحه ديمومة لا تنتهي :

لست أمي فحسب بل أنت قلب

يسكن القلب بكرة و عشيا

*تباطؤ الزمن وإيقاع الحرمان في قصيدته (الوردة البيضاء)

تتصاعد حدة الفقد بعد مرور عام ، ها هو يرصد حركة الزمن الذي يخطو ببطء فوق صفحة القلب يوما بيوم، وشهرا بشهر، وحقبة بحقبة ، و عاما بعام ، لقد استحضر الشاعر كل ألوان الطيف ليرسم لوحة إثر لوحة في شعره و جمع كل المناقب لينسبها إلى فقيدته الراحلة، وجمع كل الشجن ليودعها قوافيه ، وتأتي هذه القصيدة لتفترع السجف وتميط اللثام عن عالم جديد هو رماد ما تبقى من ذكرى عصفت به أنواء الغياب و قوضته عواصف الحرمان عالم جديد ابتناه الشعر في مشاهد تتوالى منضّدة في فضاء الأوراق البيضاء بعضها يأخذ بحجز بعض ، في المشهد الأول منزل غادرته العاصفة و غيرت معالمه وتركته أطلالا دارسة .

في الثاني صورة تعبيرية لنموذج إنساني تشكّلت معالمه الخارجية من شلالات الدمع تمازجت ملامح الكون مع الشاعر الحزين ، و في الثالث حيرة عابثة تضرب الوعي وتجعل الإقبال إدبارا و الحضور غيابا ، ثم مشهد الساقية بدواليبها تجترّ الماء دمعا ، ثم تأتي حركة الأفلاك لتنسج عذابات الليل و النهار وتكتسى صفحة النهار و الليل بحزن مقيم و كآبة دائمة ، وهكذا تتوالى المشاهد و الصور تستقصي الأوقات و الأمكنة و الملامح في تداعيات تنهمر بلا رحمة وكلمات تلتقط النبض وعبارات تصوغ اللوعة ، إلى أن يصل الختام وقد أنهكه التطواف فألقى عصا الترحال بجوار الضريح لتهدأ روحة ولو إلى حين.

*أسئلة حائرة و حزن مقيم

أما الأسئلة الحائرة فتمثلها قصيدة ( من أين لي من بعدها قلب ) الاستفهام يزلزل يقين الأشياء ، ويمثل الحيرة و الذهول ، ففي هذا العنوان ما يدل على التشكيك في وجود القلب هو جوهر الحي والأحياء ، مركز الحس و الوجدان و العرفان ففي النص التراثي يتماهى القلب مع العقل فيطلق اللب على الاثنين معا : ترجيع حزين ينتظم القصيدة في مناجاة باكية وابتهالية دامعة ، وهي من أطول قصائد الديوان تبدأ بأسلوب الندب تتلوه الشكوى في بث متصل أشبه بنفثات مصدور مفجوع فيه وصف يحتشد بالتفاصيل في تجليات متتابعة موجة إثر موجة و حالة إثر حالة في صورة بعد صورة و مشهد يتلوه آخر في إيقاع منتظم ، وتتصاعد الوتيرة في تنام متصل عبر محطات وجدنية يلقي فيها الشاعر بعصا ترحاله حينا من الوقت ثم يتابع الصعود حتى تشرئب به افقد فيستقر في قلق السؤال :

*المحطة الأولى: مناجاة وشكوى :

في مستهل القصيدة تبدأ أولى انطلاقات الزفرة الحرّى شكوى و حنين)

وصف للذات بعد الفراق ، ثم التساؤلات الحيرى حول الفقد حقيقة أم وهم؟ حوار متخيل بين الأم الفقيدة و الذات الشاعرة ثم استغراق في وصف الحال و المآل في سردية دامعة ثم الرجوع إلى الملجأ الحصين الرب الأعلى والإله الأوفى ثم مغالبة اليأس و مداراة الصبر ثم العود على بدء و الركون إلى قلق السؤال :

ملحمة غنائية درامية تتوسل بالنداء والوصف و السرد ومعجم حزين ولتراكيب مجازية كثيفة تتوسل بالاستعارة و تركن إلى كنائية قريبة الدلالة عميقة الغور ثائرة الوجد

*تمظهرات الحزن متوالية دلالية

تبدأ بدوائر متعاقبة في كل دائرة لقطة وامضة تصور لحظة من لحظات الأسى :دائرة الضيق تتمظهر في الكهف وحلقة الصمت تتجلى في البكاء و حلقة الحيرة تبدو خارطة بلا اتجاهات و حلقة الشقاء حيث بكاء الركب و الدرب وحلقة المعاناة فإذا الأسى جمر والروض ذاو خاو على عروشه وحلقة الصدمة حيث تتوالى الأسئلة الحيرى ، هذه حاله تتوالى في هذه الحلقات المتسلسلة وحلقة أخرى جفت فيها الأقلام وانطفأت قوافي الشعر و شاخ رونقها، وتنثال الصور في لوحات متعاقبة كتائب الآهات سرب يسير وراءه سرب والأنين يشب نارا والدمع الساخن تصطلي بناره الوجنات والدنيا تضيق وتتضاءل والطريق سم خياط لا يسمح بالنفاذ وتقلصت الفضاءات ثم تنتهي مواكب الصور إلى حيث يلقي عصا الترحال ، ولكن الفجيعة ظلت تراود الفؤاد تغالبه فتغلبه ، وتظل الأسئلة حيرى ملتاعة وتنتهي إلى دوامة تصوغها كلماته و قوافيه التي انتابها اليأس وانتهت بها الدروب إلى فكان المشهد قاتما بائسا

وتداخلت أطياف الكلام فقد ضاقت قوافي الشعر وكسرت محابر المداد وجفت بعد أن كانت فواحة مخضرة :

فكسرت فوق القبر محبرتي

فلكل روض حوله شِرب

فكأن أبياتي رياحينٌ

فواحة و حروفها عشب

لقد جاءت الأبيات الأخيرة من القصيدة لتعبر عن موقف وجداني بلغ الذروة حسرة و ألما تستذكر الرحيل الذي تتكرر مفرداته وتنثال سلسلة من الأسئلة الملحاح تنهمر تداعياتها في قوله (من أين لي من بعدها قلب )

التي تكررت مرات ثلاث لتنتهي القصيدة و الجرح النازف باق على ما هو عليه وأبواب القصيدة مشرعة .

وأخيرا

لن ينتهي الحديث عن هذا الديوان ببضع كلمات ينثرها القارئ نافضا يديه ليفرغ لشأن آخر بعد أن يأتي على خصائصها الأسلوبية و معجمها الحزين ومشاهدها المكتوبة بمداد القلب وأسئلتها الحائرة و تداعياتها التي تنهمر بلا انقطاع وتماسك التجربة الشعرية المسكونة باللوعة وانسجامها سبكا وحبكا وتقاطر عوالمها و وحدتها وا تساق عناصر شعريتها في شبكة منسوجة من علائق تكفل لها جماليات التعبير و التصوير ؛ فالمسألة أبعد من ذلك و أعمق غورا ، إنها وثيقة وفاء مكتوبة بدم القلب للأم بدلالاتها المطلقة من قيود الزمان و أسوار المكان .

رحم الله الفقيدة ورحم أمهاتنا جميعا وأسكنهن فسيح جنانه وجزى الله الشاعر عن

هذا الوفاء خيرا.

أضف تعليقك

برجاء الكتابة باللغة العربية فقط comments are disable

بقلم : يحيى بن سعيد آل داوود

م. زكي الجوهر

بقلم / مبارك بن عوض الدوسري

بقلم / شهد مسند الهاجري

بقلم/ اشتياق عبدالله

يوسف أحمد الحسن

يوسف أحمد الحسن

يوسف الذكرالله

بقلم | فهد الطائفي

التغريدات