التساؤل قد يخيم على عقولنا فترة ليست بالقصيرة وقد ننشغل بغيره بغية التهرب من البحث عن أجوبة منطقية له ولكن في نهاية المطاف تذعن أنفسنا أمام سطوته ونستسلم له ونلبي مطالبه ونبدأ فعلياً في البحث عن ماهو ظاهر في سلوكنا وخفي في عقولنا، ومن هذه الأسئلة التي حارت ودارت في عقلي، هل يمكن أن يجسد لنا السراب إنجازًا ؟!
وأود التنويه هنا أن ما أطرحه في هذا المقال ليس من منظور الشخص الذي خرج من محيط هذا السراب بل من منظور ذلك الشخص الذي لازال يتردد بين جنباته بغية التحرر من أوهامه وخياله.
والإنجاز في الحياة شيء مهم ؛ فبه يشعر الإنسان بوجوده وكينونته، وأن حاجتنا له نابعة من طبيعة الحاجة البشرية لتحقيق الذات والسمو بها بين آفاق الناجحين، ورسم لوحة الإنجاز ووضعها في معرض التاريخ ليس أمراً يسيراً وطريقاً مُعبداً ولكنه جهد مضني وثقة وبذل و مواصلة وسير وعطاء، وما الإنجازات الكلية العظيمة إلا إنجازات جزئية صغيرة كُتب لها الاستمرار.
دائماً ما أتساءل ما الخلل الذي جعل مفهومنا للإنجاز يختل ويتحول من المفهوم الكلي إلى اختزاله في قالب جزئي والإكتفاء به ؟!
والأسباب كثيرة ومتشعبه ولعل أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في اختزال مفهوم الإنجاز من نظرته الكليه إلى الجزئية وهو غموض الهدف وغياب الغاية النهائية التي يريد الإنسان أن يخلدها بين صفحات كتابه، فغياب الهدف والاتجاه يهدر الأوقات ويثبط العزيمة ويمنع الإنسان من السعي والعمل الدؤوب ويجعله يميل إلى الكسل والاهتمام بالجزئيات المتفرقه الغير موصلة للكليات النهائية.
ومن الأسباب المهمة والرئيسية كذلك طبيعة النزعة البشرية العجولة التي ترى أن قيمة القريب العاجل وإن قل أعلى من قيمة البعيد الآجل وإن كثر، وهذا الخلل التقديري في مفهوم القيمة وعلاقته بالزمن كان موجوداً منذ الأزل ولكنه عُزز بشكل مذهل في عصر التواصل الذي نعيشه اليوم، والانشغال بالجزئيات الصغيرة المتفرقة العاجلة وإهمال الكليات والغايات النهائية الآجلة تفضي بطبيعة الحال إلى تغيير معنى ومفهوم الإنجاز من شكله الكلي الذي يتطلب وقت أطول وجهد أعمق وقدر من العزلة، إلى الإنجاز في مفهومه الضيق المختزل الذي يركز على التواجد وإظهار الإنجازات الجزئية الصغيرة والاكتفاء بها، والأخيرة لا تتطلب بطبيعة الحال إلى ذلك الوقت الطويل والجهد العميق كما في المفهوم الأول، ولو تأملنا قليلاً في خفايا مواقع التواصل وتعاطينا معها لوجدنا أن أبرز المسالك والنتائج التي سقطنا في وحلها دون أن نشعر هو الانتقال تدريجيًا من الباعث الداخلي للإنجاز إلى إدمان البحث عن الحافز الخارجي فإن توفر سرنا وإن قُطع عنا أنقطعنا وتوقفنا.
وأنا هنا لا أقزم دور الإنجازات الجزئية وحاجة النفس لإظهارها بين الفينة والأخرى ولكن الإكثار من إظهارها قبل اكتمالها يؤدي إلى الاستغناء بها عن ما هو أكمل منها وهنا يكمن الإشكال، والتوازن بين كلا المفهومين هو الغاية والمطلب .
ويجب أن يستشعر الإنسان غاية وجوده على هذه البسيطة وهي تحقيق كمال العبودية لله تعالى وعمارة الأرض واستشعارنا لهذا الدور العظيم الذي يمليه علينا إسلامنا وعروبتنا وأوطاننا بلا شك يحملنا مسؤليات عظيمة وجليلة ولاسيما في هذا الزمن، لذلك عندما يستحضر الإنسان هذا الدور العظيم الذي خُلق لتأديته في هذه الحياة يتحتم عليه أن يسمو بأهدافه وغاياته و يترفع من أن يكون جل قصده الإنشغال بتوافه الأمور وإرضاء النفس وتخديرها بقليل الإنجاز الجزئي المتفرق الذي لا يتحقق به كمال الغايات وإليه تصرف جُل القدرات، وأختم بقول الشاعر ابن هانئ الأندلسي: ولم أجِد الإِنسانَ إِلا ابن سعيِه فمن كان أسعَى كان بالمجدِ أجدرا وبالهمةِ العلياءِ يرقَى إِلى العُلا فمن كان أرقَى هِمَّةً كان أظهرا ولم يتأخرْ مَن يريدُ تقدمًا ولم يتقدمْ مَن يريدُ تأخر.