رحيل القامات الإنسانية العظيمة والملهمة يترك فراغا كبيرا في الأرواح، ولكن تظل ذكراهم وإرثهم محاولة لسد فراغ وجودهم في حياتنا، ومن بين أولئك الراحلين الكبار، يأتي الأديب والإعلامي عبد الفتاح أبو مدين الذي قدم الكثير لأجل مجتمعه ووطنه، وكان عنوانا لكل جميل ورفيع في الأدب والفكر والثقافة والمعرفة بشكل عام. طوال حياته “رحمه الله” كان الراحل أبومدين شعلة من العلم والتنوير، وترك بصمة مهمة للأجيال القادمة في الكسب والعمل من أجل المضي بالنمط الإنساني المتوازن والمنطلق في هذه الحياة، فهو أحد قيادات التنوير ورواده الذين أفنوا العمر في مقارعة الحجة لدى المتشددين، وأحد الذين أرسوا قواعد الحداثة الثقافية، وكان له رأيه في أهمية حضور المرأة في الحياة العامة، وقد كان من أول من أتاح لها المشاركة في فعاليات النادي الأدبي في جدة، الذي ترأسه لأكثر من عشرين عاما. في كتابه “الفتى مفتاح” وهو لقبه أيضا، قدم مسيرته منذ الرحيل من ليبيا إلى الحجاز حيث استقرت العائلة، وأصبحت جزءا من نسيج أضاف إلى الثقافة الكثير، بدأ ذلك بإصدار صحيفة “الأضواء”، وهي أول صحيفة تصدر في جدة، ثم انطلق في المسار المعرفي بصورة جدير بأن يخلدها التاريخ، فقد نجح “رحمه الله” في أن يقدم الكثير مما يحقق القيمة المضافة الفكرية والأدبية والثقافية والإعلامية لبلدنا. وحين ترأس النادي الأدبي إلا جانب إسهامه الإعلامي في إدارة مؤسسة “عكاظ” للصحافة ثم “البلاد” للصحافة والنشر، تدفق الراحل بمعرفة فكرية وثقافية وإدارية هائلة انعكست في الإسهام الواضح في تطوير قضايا الوعي الثقافي والأدبي في جدة خاصة والمملكة عامة، وأثرى النشاط الإعلامي والثقافي بالعديد من الإصدارات التي ترتبط بمسيرته العطرة، حيث أصدر مجلة “علامات” ومجلة “الراوي” ومجلة “عبقر” ومجلة “جذور”، ومجلة “نوافذ”، وجميعها كان لها دورها المحوري في خدمة القضايا الثقافية والأدبية والمعرفية. ومع تواضعه الجم، وشخصيته الفريدة، وأخلاقه النبيلة، وسيرته المعتقة بعبق الأصالة والعلم، فلم يكن ليبدو أو يظهر بما قدمه، فيقول بكل تواضع “إنني أؤكد من البداية أن حياتي ليس فيها شيء يستحق التسجيل والحديث لأنها حياة أمثالي ممن عاش اليتم والجهل والفقر” وذلك هو قول وفكر العظماء الذين يبذلون فكرهم وخبراتهم من أجل غيرهم، فيظلون خالدين في الذاكرة وأسفار التاريخ. ونظير أدواره المعرفية والفكرية فقد حصل الراحل أبومدين على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى حيث تسلمه من يد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية)، في دورته الـ33، كما تم تكريمه في مؤتمر الأدباء السعوديين الثالث عام 2009م، وذلك جدير به ويليق به، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، فقد قدم الكثير الذي لا يمكن أن ننساه طالما حيينا، وسيظل إرثه علامة مضيئة في مسيرتنا الاجتماعية والوطنية عبر الزمن.