قبل فترة قريبة كانت ذكرى عيد ميلاد الكريسماس المسيحي، وراسلني حينها أحد الإخوة بفتوى للشيخ ابن القيم – رحمه الله – وهو تلميذ مباشر للشيخ ابن تيمية وأن لهما فتوى متشابهة بعدم جواز تهنئة غير المسلمين بعيدهم، مع العلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد رهن درعه عند يهودي، وكان يحسن لجاره اليهودي ويعوده، فهل فعلاً الإسلام يمنع هذه التهاني؟ بل لم يُعرف إن كان هناك تحريم في هذا الجانب في أزمنة الخلفاء الراشدين – حسب ما أعرف – فهل كان ابن تيمية هو سبب هذا التحريم في الإسلام؟ وهل هو من أثار التعصب والكراهية الطائفية في الإسلام؟
للإجابة حول ابن تيمية لابد من معرفة السياق التاريخي الصحيح بالعودة لزمن ابن تيمية وفكره لمعرفة الجواب. فلقد عاش ابن تيمية في القرن السابع الهجري، وقبل مولده بقرون في ظل وجود متغيرات أدت إلى ضعف الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري التي من شأنها أن شجّعت على ظهور حركات انفصالية قامت على أساس عقائدي واستخدمت الدين والاختلاف المذهبي للانفصال وقيام دول مختلفة الطوائف مثل الدولة الرستمية (المغرب)، والفاطمية (تونس، مصر)، والحمدانية (حلب)، وبني بويه (العراق)، وقيام حركة القرامطة التي سرقت الحجر الأسود في الجزيرة العربية وغيرها. فقيام مثل هذه الدول التي قامت على أساس طائفي قد عزز الكراهية الدينية والصراعات الطائفية، كما أن هذه الدول قد شهدت اضطرابات مقلقة تدل على تفشي الفقر مثل ظهور (الشدة المستنصرية) في مصر الفاطمية وهي المجاعة التي قضت حتى على الدواب وتولي خلفاء فاطميين مشكوك في قواهم العقلية مثل (الحاكم بأمر الله).
في تلك الظروف ادعى عالم عظيم مثل ابن الهيثم الجنون بحثاً عن السلامة في ظل تفشي الجهل والفقر وبدأت تظهر الخرافات والأوهام التي وجدت من يدافع عنها مثل كتاب (الفتوحات المكية لابن عربي) الذي كان رائجاً في ذلك الزمن الذي يعزز من خلاله اللا منطق واللا معقول. هذا الضعف والهوان جر الحملات الصليبية للعالم العربي وتحولت الكراهية الطائفية إلى كراهية دينية، بالإضافة إلى الغزو المغولي للمشرق العربي، بل بلغت الكراهية الطائفية بين المسلمين بأن يُصلي المسلمون في جماعات مختلفة. فالحنابلة مثلاً كانت تصلي في جماعة منفصلة عن جماعة المالكية، كل هذا كان يحدث قبل مولد ابن تيمية.
أما ماذا عن فكر ابن تيمية، فإن من يقرأ كتابه (نقض المنطق) وهو ينتقد المنطق (الأرسطي) الذي كان دارجاً في تلك الفترة، يدرك أنه سبق مفكري الشرق والغرب في الاهتمام بالمنطق التجريبي على حسابه التجريدي. وبعد وفاة ابن تيمية بقرون طالب الفيلسوف الإنجليزي (بيكون) في كتابه (الأورجانون الجديد) new mothed بآراء تشابه ابن تيمية بالاهتمام بالجزئيات والتجارب حيث شبه المنطق الأرسطي بالعنكبوت التي تنظر للأمور من مقامها وتغزل شباكها من دون تواصل، أما التجريبيون فهم مثل النحلة التي تدور بين الورود وتصنع عسلاً مختلفاً عن كل زهرة. والجدير بالذكر أن (بيكون) مات وهو يقوم بتجربة لتبريد اللحوم.
هذا الفكر الذي امتلكه ابن تيمية والأفق البعيد عن عقلية المتعصبين ذوي الأفق والعلم المحدودين كان سببه أنه يمتلك عقلاً حراً يناقش منطقاً كان دارجاً حتى أن ابن رشد ذاته وهو من تأثرت به الحضارة الغربية الذي كان مشهوراً باسم Averroes لم يتجاوز المنطق الأرسطي، وفي الغرب اعتبره القسيس الفيلسوف (توما الأكويني) كمعيار وكذلك في الفكر الإسلامي اعتبره الغزالي ميزاناً للعلوم.
ومن يقرأ رواية حي ابن يقظان التي كتبها عدة فلاسفة عرب (ابن سينا، السرهودي، ابن طفيل، ابن النفيس)، سيجد المنطق الأرسطي يتجلى في الرواية بكل وضوح في منطق (ابن يقظان) الذي نشأ معزولاً في جزيرة.
وبشأن معايدة غير المسلمين فكتابات ابن تيمية ذاته منها كتابه (درء التعارض) الذي كان منهجياً أكثر من كتاب ابن رشد الذي بدا فيه مثالياً (القول الفصل)، رأى ابن تيمية أن التحريم أنواع؛ ففي حالة التحريم الظني – ليس التحريم القطعي – يُغلّب العقل كون التحريم مرتبطاً بتغير الزمان والظروف المحيطة بسياق تاريخي تختلف باختلافه الفتاوى، كما أن التصور أن التهنئة هي إيمان بما يُهنأ به لم يعد صحيحاً، فكون دول العالم بخلاف دياناته تهنئ المسلمين بأعيادهم لا يعني أن هذه الدول تؤمن بالضرورة بعقيدتنا ولكنها تهنئ من باب صنع السلام الذي نحن أولى به. فالله تعالى في كتابه يقول: (وقولوا للناس حسناً).
حقيقةً قد أكون ممن تحدث في غير تخصصه وهذه ليست فتوى؛ بل رأي شخصي في فتوى ابن تيمية، ولكنْ أخلاقياً فإنه يجب علي أن أتحدث بحكم اطلاعي على سماحة الإسلام وعلى رجل وهب حياته للفكر والاطلاع. فلم يتزوج ولم يطلب الخير إلا لأمته، رحم الله ذلك الشيخ العظيم.