«وضعت زهرتك الجميلة، التي قطفتها عند بابك، بين أجمل رسائلك تلك المقطوفة من قلبك، قبلت الزهرة والرسائل، ووضعت شفتي على خطك، وروحي على تفكيرك، وهاأنذا أكتب إليك الآن، بعد قليل سأشتعل من أجلك، من أجلنا».
(فكتور هوغو)
تمثل الرسائل الخطية التي كانت تتبادل بين شخصين يجمعهما الحب لبعضهما مثل حبيب وحبيبة، أو صديق مع صديق أحبا فناً معيناً لتلاقيهما فيه، فبين الحبيبين العاشقين تكون الرسائل بينهما مترجمة لعواطفهما وأشواقهما وما يحلمان به ويتخيلانه في آمال وأماني ينتظرانها، أو في استرجاع لأحداث كانت قد مرت بهما تحمل صوراً لمواقف يراد لها أن تتكرر للذتها وجمالها، أو أن تكون بمثابة مؤشرات كما التحذير مما وقع من أمر أفسد عليهما لحظات كانت مزدهرة وبسببه كان جفافها، وفي تبادل محبة الفن المشترك بين صديقين جمعهما نوع منه وغالباً ما يكون الأدب بفروعه، والفن بأنواعه، أما في نقاش في مسألة أو استمتاع برأي حول منتج معين مع ذكريات وتذكيرية، وتبادل وجهات نظر، وفي كلا النوعين من الرسائل حلقات تمثل سلسلة متماسكة الحلقات حول المواضيع المطروقة والتي تتناولها الرسائل.
في ملاحظة لما يجري في الساحة الثقافية في الراهن أن هناك توجهاً من بعض المهتمين بالنشر والكتابة لنبش وإعادة رسائل المشاهير القدامى، وإصدارها في طبعات حديثة، وترجمة بعض الحديث منها، في وقت اختفت فيه الرسائل الورقية بخطوطها الأنيقة ونوعيات الورق مثلما كان يتبادل قديماً وقبل عقود قليلة، حيث التوجه إلى وسائل الاتصال الحديثة، رسائل تتسم بالتكثيف والاختصار، منها المسموع والمشاهد والمقروء، فالسهولة التي احتوت وضمت جميع الرسائل بأنواعها وما فرضته من تغيّر جذري لشكل الرسالة ومضمونها فيم يشير إلى أن التغيير ينبئ عن نهاية الرسائل التقليدية وتلاشيها، وبروز الجديد المواكب الملائم للواقع الحالي وما هو فيه من تحولات من شأنها تسهيل المهام التي كانت ثقيلة وتسريع ما كان بطيئاً، وكل يوم له وجهه المختلف عن سابقه من الأيام، في صورة عملية واقعية تشاهدها وتتفاعل معها ممارسة البشرية جمعاء في شتى أنحاء الأرض.
الفيلسوف الوجودي والكاتب الشهير الفرنسي البير كامو صاحب رواية (الطاعون) الشهيرة الذي رحل في حادث سيارة في بداية ستينيات القرن الماضي، كانت له حبيبة/عشيقة تبادل معها الرسائل حتى وهما في مدينة واحدة، وإذا كان خارج المدينة واصل الكتابة «بدأت قصة كامو وماريا في السادس من يونيو 1944 يوم إنزال الحلفاء بالنورماندي، التقيا مصادفة، وكم يبدو ذلك عبثياً بالنسبة إلى شخص يقول في إحدى رسائله: (على الحبيبين أن يفوزا بحبهما وأن يكسباه، أن يبنيا حياتيهما وشعورهما). كانت (ماريا كازاراس) تبلغ من العمر 21 عاماً وكان البير كامو في الثلاثين، أما زوجته (فرانسين) كانت آنذاك بعيدة عنه بسبب الاحتلال الألماني، وحينما انتهت الحرب قررت (ماريا) أن تنهي القصة، لتعود الزوجة (فرانسين) ويعود إليها (كامو) وتتوقف الرسائل.
بعد أربع سنوات تعود شعلة الحب ملتهبة الأشواق مفعمة بالشهوات حتى أن المسرح والفن الذي اندمجا فيه وتشبثا ببعضهما كغريقين نجيا من حادثة غرق مميتة، حيث كانت بداية جديدة أشد من الأولى ولها كان الدوام حتى فارق الحياة، فقد استمرت الرسائل كما كانت يومية من الداخل والخارج عندما يكون في مهمة من المهام التي تناط به كأديب له شهرته العالمية، وفي مشاركاته العديدة لا يكف عند رسائله إلى عشيقته، بلغت الرسائل المتبادلة بينهما 865 رسالة صدرت عام 2017 عن دار (غاليمار) ففي إشارة للمترجم «قمت بترجمة عدد من هذه الرسائل عن الفرنسية لغتها الأصلية التي بَذَلَتْ فيها (بياتريس فايان) مجهوداً في تجميعها وترتيبها زمنياً.. نشرت هذه الرسائل مسبوقة بتوطئة كتبتها (كاترين كامو) ابنة البير كامو، قدمت فيها شكرها لـ(ماريا كازاريس) ووالدها لأنهما جعلا العالم مكاناً رحباً بحبهما كما أثنت على شغف (بياتريس فايان) وتفانيها بما عملت، أما ما قمت بانتقائه من الرسائل التي أترجمها بين طيات هذا الكتاب فهي إما متعلقة برحلة ذات أهمية لـ(كامو) أو أنها تكشف بعض كواليس كتاباته أو أنها فقط تخبرنا كم كان البير شيفا بارعاً لما يخصه».
هذا الأديب الفيلسوف الذي يقول طه حسين إن روايته (الطاعون) ثرثرة في لقاء متلفز -اعتبرت سقطة من عميد الأدب العربي- حيث قيمة الرواية الفنية ومضمونها الإنساني يشفع لها بالبقاء فهي لازالت تعاد طباعتها في لغات عديدة، ومع حلول جائحة كورونا توالت طبعاتها عالمياً وكانت الإشارات إليها مع رواية (العمى) لـ (سارا ماغو) و (الحب في زمن الكوليرا) لـ (ماركيز)، وكامو الحائز على جائزة نوبل، يبرز لك في رسائله مرتبطاً بالحب والعشق كإنسان له خصوصيته وما يرى أنه في حاجة إليه، فالحب وقود فعال في تحريك ملكة الإبداع لتستمر وتضاعف من إنتاجها لدى المبدعين/ المبدعات، «ستكونين الأجمل والأعظم بعيدة عني، لكن حتى وأنا وحدي في غرفتي، فإن أعظم فرحة تتملكني في أن أكون قادراً على تأمل من أحب، هذا المساء وحدي لن أفكر بسواك حبيبتي، وفي نجاحك أنا أنصت لك عن بعد وأشكرك على كل شيء بقلب يفض» -كلمات كانت على بطاقة مرفقة بباقة ورد- هذا في البعد وفي القرب تكون العبارة تتبع أختها سلسة وعدسة لاقطة ملونة تجسد صورة العواطف ملفوفة بأرق وأجمل العبارات التلقائية: «لا رسائل وصلت منك اليوم كنت توقعت ذلك أو لنقل أني على الأقل لم أتوقع أن تكتبي لي رسالة كل يوم، لكن يومي كان كئيباً بعض الشيء، بالأمس كتبت قليلاً حاولت النوم باكراً قرأت.. وجدت عبارة لمسافر في الصحراء» الحب في هذه الأماكن الحارة يصبح شعوراً لا يمكن تشويشه، إنه الاحتياج الأكثر أهمية للروح، إنه صراخ الرجل الذي ينادي الريف كي لا يظل وحيداً وسط الصحراء.. حين أتذكر قلبي قبل أن أعرفك، أوافق على مضمون هذه المقولة» الرسالة تلو الرسالة تحمل الأشواق واللهفة للقاء للاستئناس بتداول أحاديث العشق والهموم الخاصة والمشتركة والترويح عن بعض، على اعتبار أن (فرانسين) لا تعلم بما يدور بين زوجها وحبيبته، وهي المستسلمة التي لا تناقش متخذة من اللامبالاة درعًا يصد عنها آلام ما يمكن أن تسببه الغيرة، ويكتب من الجزائر ما يشير شعوراً إلى أنها الرسالة الأخيرة في حياته: «حسناً، رسالة أخيرة لا لشيء سوى لأخبرك أني سأصل يوم الثلاثاء، سآتي بالسيارة رفقة عائلة (غاليمار) سيمرون بي يوم الجمعة سأتصل بك ما أن أصل، وقد أجد طريقة لتناول العشاء معاً يوم الثلاثاء إن لم يطرأ أي شيء على الطريق، سأهاتفك حتى لنحدد موعدنا!!» لم يكن هناك لقاء، لقد سافر بالسيارة مع رفاقه، أما زوجته فسافرت بالقطار، لقد جرى له حادث مؤسف في الطريق باصطدام وانقلاب للسيارة في 4 يناير 1960 كانت فيه وفاته في الحال أما صديقه (ميشال غاليمار) فتوفي بعد خمسة أيام في المشفى، وكانت نجاة البعض، أما الرسالة الأخيرة في حياته كانت فعلاً أخيرة كما ذكر، لقد رحل مخلفاً روايات ومسرحيات لازلت تنبض بالحياة في متناول القارئين.