مقتضى الفطرة السليمة والعقل الراجح والكرم الأصيل الدعوة إلى معالي الأمور وتنشيط الهمم إلى اعتلائها والحض على الترفع عن سفاسف الأمور؛ لأن المعالي محبوبة بذاتها، والدنايا مسخوطة لقبحٍ ملازمٍ لها، ولكن من الناس من يعكس القضية فيثبط الطالب لمعالي الأمور عن الاجتهاد في طلبها، ويزين للمشتغل بما لا يُجدي نفعاً ما هو فيه، فيفتُّ في عضد المجتهد، ويحوك الحجج الواهنة للمخلدين إلى الأرض، والتثبيط عن الخير من مكايد إبليس للبشر؛ لإغوائهم، والتمسك به قديمٌ عند البشرية، والمثبطون أنواع وأشكال منهم من يظهر صنيعه جليّاً، ومنهم من يدسُّ سُمَّ التثبيط في عسلِ النصحِ، وقد يقع في التثبيط من يسمع كلاماً معيناً فيردده من غير شعورٍ بما يُسبِّبُهُ من إحباطٍ للهمم، كما أنه قد يحتار بعض الناس فيظن الناصح الأمين مثبطاً فمن المهم الحديث عن هذا الأمر بواسطة الوقفات الآتية:
أولاً: عرقلة الناس عن منافعهم في دنياهم وأخراهم لو تمت بالطريقة المكشوفة لباءت بالفشل؛ فلا بدَّ لها من قناعٍ يتستر بها الممارس لها، كإنكاره وجود المصلحة الداعية إلى هذا العمل أصلاً، وإنكار السبب المؤدي إليها، وبواسطة هذا الإنكار يثبِّط عتاةُ مكذبي الرسل الناسَ عن قبول ما جاءتهم به رسل الله تعالى، فهم يُنكرون البعث والجزاء، ومن أقنعوه بذلك سهل عليهم ثنيه عن اتباع الرسل، ومن أساليبهم تضخيمُ وقعِ مشقةٍ صغيرةٍ لصرف الهمم عن مكابدتها في سبيل دفع المفسدة الكبرى كما قال المخلَّفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: “وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ” ضخَّموا مشقة الحرِّ؛ لإلهاء الناس عن توقِّي حرِّ جهنم، وهذا أسلوب كل من رأى متهيئاً للبذل في مصالح عالية لا تُنال إلا بجهدٍ ومشقةٍ فذكَّره بما يكتنفها من صعوباتٍ ودعاه إلى ترك العمل اتقاءً لهذه الصعوباتِ، وما أكثرَ هذا النوعَ منهم!.
ثانياً: يقع بعض الناس في تفتيت الهمم من حيث يشعر أو لا يشعر بواسطة لوكه أحاديث بعض الناس عن موضوعٍ معينٍ، ومن هذا القبيل كثرة الحديث عن صعوبة بعض المعارف وتعسُّر إتقان بعض التخصصات، فلا ينبغي أن يُضخِّمَ الإنسانُ صعوبتَها وهو يُحدِّثُ مُقبلاً على شيءٍ منها خصوصاً إذا كان ذلك المقبل من فئة الناشئة، وكذلك الحال بالنسبة إلى كل أبواب الحياة لا يسوغ أن يبالغ في وصف عقباتها إلى حد إدخال الرعب في أنفس الراغبين فيها، وعلى الإنسان أن يدرك الحدَّ الفاصل بين نقل التجربة إلى غيره وبين تعقيد الأمور له، فمثلاً: يمكن أن يوصلَ أحدُ الوالدين بعض تجاربه إلى أولاده بشكلٍ نافعٍ بعيداً عن المبالغة، فإن كانت له تجارب مُخيِّبة مع من تعامل معه أو ائتمنه، فليعطه قاعدةً عامةً في التعامل الآمن، ولا يُهوِّلُ الأمر بحيث يرسخ عنده قناعة مفادها أنه يتعذر عليه وجود الصديق المخلص والمتعامل المؤتمن فهذا تثبيط له عن التماس منفعة الصداقة.
ثالثاً: ليس كل من كفَّكَ عمَّا ترى أنه الاجتهاد مُثبِّطاً، فالتثبيط هو الصرف عن الأفعال المحمودة في كمِّها وكيفها، فإذا جمح الإنسان إلى الغلو والتطرف والتنطع فَصَرْفُهُ عن ذلك هو المصلحة ومن صَرَفَهُ فهو الناصح الأمين، وعليه أن يستمع له ومصداقه حديث أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، فَجَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا، فَقَالَ: كُلْ؟ قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ: فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُومُ، قَالَ: نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ فَقَالَ: نَمْ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ قَالَ: سَلْمَانُ قُمِ الآنَ، فَصَلَّيَا فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ سَلْمَانُ» أخرجه البخاري، فصنيع سلمان رضي الله عنه نصحٌ خالصٌ؛ لأن استغراق الأيام صوماً واستغراق الليل صلاةً فوق ما هو المسنون، فيحتاج فاعله إلى ناصحٍ يُثنيه ويرجع به إلى الاعتدال، وهذا درسٌ جليلٌ ينبغي أن يضعه كُلٌّ منا نصب عينيه؛ ليكون له معيارٌ يُفرِّقُ به بين من يُثبِّطُ عن المنافع وبين من يصرف عن المبالغة والغلو، ويدخل هذا في كل أبواب العبادات والمعاملات والتصرفات فالداعي إلى الاعتدال فيها مُرشدٌ لا مُثبِّطٌ.