قد تكون هذه المرة الثالثة أو الرابعة التي أقترح فيها تأسيس مركز أو مؤسسة علمية وبحثية وإعلامية عالمية للدراسات السعودية يكون مقرها في واشنطن أو نيويورك، في قلب الولايات المتحدة وقريبة من متخذ القرار الأميركي، الهدف من هذه المؤسسة ليس فقط التواصل الإعلامي بل إعداد دراسات ثقافية وتاريخية عن المملكة من خلال التعاون مع المؤسسات العلمية الأميركية والعالمية المرموقة، الفكرة تكمن في أن المواجهة الإعلامية لا تتحقق بالكلام فقط بل من خلال بناء خلق محتوى معرفي منهجي يصنع زخما فكريا ينتج من المؤسسات الغربية نفسها، وبرعاية وتخطيط من المؤسسة المقترحة، ينصف المملكة وتاريخها ومجتمعها وسياستها. حقيقة لا أعلم لماذا لم نبادر إلى تأسيس مثل هذه المؤسسة التي يفترض أنها تأسست منذ عقود وتغلغلت في النخب الأميركية المؤثرة، فليس من المجدي أبدا أن ندافع عن أنفسنا من خلال ردود الأفعال أو من خلال قنوات إعلامية لا يشاهدها إلا نحن، لأننا مقتنعون بمواقفنا ولا نحتاج إلى المزيد من الاقتناع، ولكن نريد أن نقنع الآخر، وهذا الآخر يحتاج إلى حقائق مبنية على دراسات منهجية علمية وصادرة من مؤسسات تحظى بثقته.
التقرير الذي أعدته الاستخبارات الأميركية ونشره البيت الأبيض، قبل عدة أيام، عن مقتل المواطن السعودي جمال خاشقجي -رحمه الله- كان مليئا بالمغالطات والاستفهامات وإلقاء الاتهامات جزافا دون دليل، في المقابل ضج “التويتر” باستنكار المغردين السعوديين وامتلأت وسائل الإعلام المحلية باستنكار الإعلاميين والكتاب السعوديين، لكن عندما عُقد مؤتمر صحفي في الولايات المتحدة حول التقرير لم يكن متواجدا في المؤتمر سوى قناة الجزيرة، هنا تكمن المشكلة وهنا يظهر الضعف الإعلامي والمعرفي، فنحن نحارب دون أسلحة ونتلقى حراب الأعداء دون وسائل دفاع، بينما كان بالإمكان أن نؤسس مركزا يبني علاقات عميقة وتاريخية مع النخب ومؤسسات الرأي الأميركية، بدلا من ردود الأفعال الآنية التي تتصاعد عند كل حدث ثم تخبو وتموت.
الضجة التي أثارها المغردون وحتى الكتاب في السعودية والعالم العربي لا يسمعها ولا يراها إلا نحن الذين لا نحتاج إلى من يقنعنا بعدالة موقفنا، بينما من يفترض أن نصل إليهم نجد أنفسنا كل مرة عاجزين عن الوصول لهم وهذه هي الإشكالية الرئيسة: كيف نصل إلى الآخر ونقنعه بعدالة قضايانا؟ عندما اقترحت إنشاء “مؤسسة للدراسات السعودية” قبل عدة سنوات، ذلك لأني وجدت أن دولا سبقتنا إلى هذه الفكرة فهناك على سبيل المثال “مؤسسة الدراسات الفارسية” وهي مؤسسة ضاربة بجذورها في الدراسات التاريخية والفكرية والثقافية في المؤسسات العلمية والبحثية الغربية وتنتج العديد من الدراسات المنشورة على شكل كتب سنويا باللغة الإنجليزية ما يجعلها إحدى المؤسسات المؤثرة فكريا في متخذ القرار الغربي وتساهم بشكل كبير في تبرير السياسات الإيرانية لدى النخب الغربية.
قد يقول البعض إن هذا العصر ليس عصر كتب وقراءة، وبالطبع أنا لا أتفق مع هذا الرأي، ولكن لو فرضنا أنه رأي فيه بعض الصواب، فهل يمكن لأي إعلام أن يقف على رجليه دون بحوث ودراسات وأن يكسب موقف الآخر دون محتوى مقنع وأن يبني التحالفات دون علاقات عميقة ودائمة مع قادة الرأي في الغرب؟ هب أنه لا يوجد قرّاء، فهل نستطيع اختراق النخب الغربية دون دراسات جادة تنتجها مؤسسة عميقة قادرة على كسب ثقة المفكر ومتخذ القرار الغربي؟ كل هذه الأسئلة تجعلني اقترح أن يكون لهذه المؤسسة قناة ناطقة باللغة الإنجليزية تقدم محتويات هذه الدراسات للجمهور الغربي دون الحاجة إلى قراءة كتب ودراسات، الأمر بحاجة إلى صبر وتأنٍ، وهو هدف استراتيجي لا تظهر نتائجه إلا بعد سنوات، وأعتقد أنه كلما تأخرنا في إنشاء هذه المؤسسة خسرنا مساحات التأييد المستقبلية لمواقفنا.
لعل فكرة إنشاء مؤسسة عالمية للدراسات السعودية تتسق مع الأصوات المرتفعة التي تنتقد إعلامنا الحالي، الذي يبدو أنه يفتقر للأدوات الاحترافية التي تمكنه من منافسة الآخر، وربما فقر المحتوى الإعلامي هو أحد الأسباب التي تجعل من إعلامنا مكبلا أمام شراسة الإعلام المعادي، أحد أهداف المؤسسة المقترحة هو صناعة المحتوى الإعلامي القائم على كسب ثقة متخذ القرار الغربي، هذا من جهة ومن جهة أخرى لهذه المؤسسة أهداف أساسية تكمن في إيصال الثقافة السعودية للعالم، فلطالما ظهرنا في الإعلام الغربي كمجتمع غامض منعزل، هذا الهدف على وجه الخصوص يتسق مع رؤية 2030 التي تعزز فكرة التبادل الثقافي وخلق مجتمع سعودي متسامح ومنفتح على العالم، وهذا يعني أنه يمكن أن يكون لهذه المؤسسة أدوار كبيرة في إعادة تشكل الذهن الثقافي السعودي وتقديمه للعالم بصورة مغايرة عن تلك الصورة النمطية المُتصوّرة عنه.