قصة نجاح سويسرا ليس لها مثيل في العالم، لديها شعب من أفضل الشعوب انضباطاً وإنتاجاً ودخلاً، لديهم حكومة من أكفأ حكومات العالم وأكثرها شفافية، تتربع على قائمة الدول الأكثر تنافسية في العالم، مؤسساتها العلمية من بين أفضل المؤسسات المنتجة والمبدعة على مستوى العالم، تعليمها ودراساتها الأكاديمية ليست في معزل عن قطاع الأعمال والشركات، مع إنفاق كبير على الأبحاث والتطوير التي تترجم إلى منتجات وعمليات قابلة للتسويق، أما في مؤشر جودة الحياة والسعادة فهي من أوائل الدول وتتساوى مع أفضل الدول الإسكندنافية.
كل ما سبق من نجاحات ما كان له أن يكون، سويسرا ليس لديها مقومات الدولة، فلا يوجد لغة مشتركة، لديها ثلاث لغات هي الفرنسية والألمانية والإيطالية، ولا يشجع الدين على تماسك الدولة حيث إن تاريخها يحكي انقساماً كبيراً بين المذهبين البروتستاني والكاثوليكي، قليلة المصادر الطبيعية ومعظم أراضيها مقسمة بسبب جبال الألب العملاقة، كما أنها محاطة بدول قوية مما يسهل التحول والولاء لتلك الدول التي يتحدث هذا الإقليم أو ذاك لغتها، خاضت حروبا أهلية كثيرة، وآخر حروبها الأهلية كان في العام 1847 حتى إن الدول المجاورة وهي ألمانيا والنمسا وفرنسا تنبأت بانهيارها ووضعت الخطط لتقسيمها فيما بينها.
من أين جاء كل هذا النجاح؟ كان من أهم أسبابه وجود قائد فذّ بعيد نظر ومهندس هو الجنرال “جيلوم هنري دورفور” وهو قائد متعدد المواهب ومقاتل يشن الحرب من أجل أن يحولها إلى سلام، ويتمتع بروح الإنسان بداخله وتأثر به جنوده، قال لجنوده في إحدى المعارك الحاسمة: “حين تعبرون الحدود ضعوا غضبكم خلفكم، ولا تفكروا إلا بالقيام بالواجب، وبمجرد انتصارنا انسوا كل شعور بالانتقام، وتصرفوا كجنود كرماء، لأنكم بذلك ستظهرون شجاعتكم الحقيقية، احموا كل العزل، ولا تسمحوا بإهانتهم أو إساءة معاملتهم، ولا تدمروا أي شيء بدون ضرورة، تصرفوا بأسلوب يكسبكم الاحترام. وقد أبدت القوات الاتحادية السويسرية “رفقاً عظيماً” ويعود ذلك للقائد “دورفور”.
وقد استطاع هذا القائد الملهم أن ينهي الحرب من خلال المفاوضات وعقد المهادنات في ستة وعشرين يوماً وبأقل التكاليف البشرية والمادية، بفضل رعايته للجنود الجرحى من الأعداء والعفو عن المتمردين مما أثار إعجابهم ودفعهم لإعادة توحيد سويسرا، (البديل الثالث، ستيفن كوفي)
يقول الكاتب “مايكل بورتر”: كانت سويسرا في القرن التاسع عشر بلداً فقيراً، وكان أهم صادراتها المواطنين المهاجرين، وفي بداية القرن العشرين وبفضل قيادتها، برزت كدولة صناعية ودولة محايدة استطاعت أن تتفادى الحربين العالميتين وتأثيرهما المدمر.
وحين نقارن ما كانت عليه سويسرا في القرن التاسع عشر وما تعيشه بعض الدول العربية مثل لبنان واليمن وليبيا وسورية والعراق نجد أن هذه الدول في وضع أفضل لتصبح دولا مثالية تتمتع بالنمو وجودة الحياة بشرط أن يتوفر لها ما توفر لسويسرا من قيادة حكيمة واعية، قيادة تضع مصالح الوطن فوق جميع الاعتبارات الأخرى من مذهبية أو حزبية أو علاقات أسرية، قيادة تغلب مصلحة الوطن وأمنه وازدهاره على المصالح الخاصة أو العلاقة مع دولة طامعة في التوسع، وقد يجادل البعض من أن المقارنة غير عادلة وأن سبب تقدم سويسرا هو وجودها في أوروبا التي تأثرت بالإصلاح الديني والتقدم الثقافي والتقني، لكن ها هي راوندا واحدة من أفقر الدول الإفريقية، تعرضت قبل خمس وعشرين سنة لحرب إبادة راح ضحيتها نحو 800 ألف قتيل معظهم من قبيلة التوتسي، واليوم تعتبر من أفضل الدول الإفريقية من حيث الاستقرار والنمو حيث بلغ متوسط نمو الناتج الوطني منذ العام 2004 8 % ومنذ تولى قيادتها الرئيس (بول كاغامة) الذي وحد الشعب على أساس الوطن فقط، ونادى بأن تكون راوندا (عائلة متحدة) وأن ينسوا الإبادة الجماعية، واهتم بالاقتصاد والتعليم والصحة، وحسّن علاقته بالدول المجاورة، ومع الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص.
القيادة هي من تصنع الفرق على مستوى الدول والمؤسسات، ولو نظرنا إلى الدول التي عانت من التخلف والحروب الأهلية نجد أنه كان على رأس حكوماتها قادة غير أكفاء نشروا الفساد وأسكتوا كل نقد بناء، وأوصلوها إلى ما وصلت إليه من فقر وتفكك انتهت إلى حروب أهلية مدمرة.
بعض الدول العربية تمر بأوضاع صعبة وغير مستقرة، كل ما تحتاجه هذه الدول قيادة شجاعة وقوية ومخلصة تراجع دستورها، فتحذف منه كل ما يدعو إلى الطائفية أو يشجع على قيام الأحزاب الدينية أو القومية، وتعيد العلاقة المميزة مع الدول الداعمة، وتتخلص من كل تدخل أجنبي في سياستها الداخلية، حينها ستذلل كل الصعاب.