كان هناك قائد روماني يدعى جوينتيليوسفاروس (Quintilius Varus) عبر الحدود الألمانية من أجل تخضيع وتأديب القبائل الجرمانية المتمردة، ونجح في هذا العمل العسكري مما جعل له مكانة عظيمة لدى السلطات الرومانية في ذلك الوقت. وبعد ثلاث سنوات من إخماده لثورة هذه القبائل، وفي العام التاسع للميلاد، تم تمرد هذه القبائل مرة أخرى. ولثقة القيادة الرومانية بهذا القائد العظيم تم تكليفه مرة أخرى لإخماد ثورة هذه القبائل الجرمانية التي أخذت في التعدي على المدن الأخرى المجاورة وإشاعة الخوف والذعر وقامت بعمليات الاغارة والسلب والنهب.
تقابل الفريقان ودار بينهما قتال عظيم بين القائد فاروس وفيالقه الثلاثة والقبائل الجرمانية، وفي المساء تفقد القائد الروماني قواته التي خرجت من المعركة في ذلك اليوم مهزومة ومنكسرة من قبل القبائل الجرمانية، بل وخسر قادة فيالقه الثلاثة بالإضافة إلى فقدانه لأعداد كبيرة من مقاتليه ومعداته. وخرج القائد الروماني فاروس وهو يتمتم باللاتينية (Ne cras, ne cras) بمعنى ليست مثل الماضي، ليست مثل الماضي. وبعد ثلاثة أيام وجد رأس هذا القائد الروماني فاروس مفصولاً عن جسده وموضوعاً على رمح.
اعتقدفاروسبأنه سيحارب القبائل الجرمانية التي قاتلها قبل ثلاث سنواتبنفس الطريقة السابقة وأنها لم تتغير في طريقة قتالها ولم تتدرب، وظن أنه سيهزمهم كما حصل في المرة الماضية، ولكن اتضح له أن الأمر لم يكن كالحرب السابقة، بل أن هناك تغيرات حصلت لدى هذه القبائل الجرمانية لم تؤخذ في حسبان القائد الروماني ولا من قبل قيادته أو مستشاريه، مما أدى إلى هزيمته وخسارته للمعركة.
هذا درس ينبغي أن نستفيد منه ونحن نعيش في خضم إقليم ملتهب وبيئة متقلبة وغامضة ومتغيرة لا تستطيع أن تتنبأ بمجريات أمورها إلا من أخذ على عاتقه دراسة المعطيات دراسة متأنية والنظر للمستقبل. والدرس هنا المأخوذ من القائد الروماني فاروس، يجب على القادة أن لا ينظروا إلى الأمور من خلال تجاربهم السابقة ونجاحاتهم السابقة وأن يبنوا عليها عملياتهم المستقبلية وأن وجهة نظرهم مبنية على الافتراض بأنه لن يتغير شيء.
نلاحظ أن هناك تغيرات كثيرة في العالم وأن لا نرتكب خطأ القائد الروماني فاروس ونتجاهل أثر هذه التغيرات، وعلينا أن نتعلم من التاريخ ونستعد لمواجهة الأحداث التي لا مفر لنا عن مواجهتها. هذه البيئة المعقدة هي التي تنتج هذه التغيرات من حفظ نظام والقيام بأعمال ومساعدات إنسانية إلى القيام بعمليات حربية عسكرية على مستوى واسع. وتساهم البيئة في عملية تشغيل مصانع الأسلحة والذخيرة والتقنيات الالكترونية بما يتوافق مع هذه المتغيرات التي كانت نتاج هذه البيئة المتقلبة. وبالتالي، أصبحت هذه الأسلحة والمعدات التقنية متوفرة وفي متناول الأعداء والأصدقاء على حد السواء.
نحن في عصر كثُرَ فيه التنافس “الصراع” في العلاقات بين الدول بدلاً من التعاون فيما بينها. ولذلك علينا ترك الماضي وما يتعلق بآثاره وراءنا. وأنه علينا العمل بجدية الآن والإعداد للاستعداد للمستقبل، وعلينا أن نفكر ملياً، أين نحن الآن؟ وإلى أين نريد أن نكون؟ وهذا هو تفكير القادة الاستراتيجيين وديدنهم. وعليهم أن يفكروا، كيف عليهم تجهيز هذه القوات؟ وكيف سيتم تدريبهم؟ وكيف يتم غرس المعرفة والمهارة والقدرة على اتخاذ القرار؟ وكيف يتم تسليحهم؟ كل واحد من هذه الأسئلة هو استراتيجية بحد ذاتها لأنه لا بد من أن يكون نتاجها عمل وفعل، وهذه هي الاستراتيجية، وبدونها لن تكون هناك استراتيجية.
ينبغي على قادتنا القيام بمراجعة شاملة لكل برامجنا ومناهجنا لتجهيز قواتنا، وأن تكون هذه المناهج والتدريبات ذات معايير عالية، وأن يكون هناك تدريب ومقاييسقاسية لاختيار المنتسبين للقوات المسلحة بكافة أفرعها، وتنمية حب التعاون والمشاركة والعمل الجماعي وروح إنكار الذات داخلهم. نعم لقد واجهتنا بعض الإخفاقات وهذا يحصل ولذلك لن نتعلم من الصواب ولكن نتعلم من الأخطاء والفشل، وتصبح دروسا مستفادة تتناولها الأجيال على مر الزمن. وأن تكون هناك مراجعة مستمرة لا تنتهي بانتهاء الحدث أو الأزمة، بل يجب أن تكون حاضرة دائمة وجاهزة لمعالجة أية أزمة طارئة.