عندما تخرج أسرة كاملة على بكرة أبيها كبارا وصغارا لتوديع عاملة منزلية في المطار؛ لأن العاملة أمضت في منزلهم أكثر من ثلاثين سنة، حتى بلغ بها الكبر عتيا، وأصبحت مسنة لا تستطيع المشي إلا بالكرسي المتحرك، وتقرر بطوعها أن تعود لبلدها، فيخرجون لتوديعها، وحضنها، وتقبيل رأسها، والبكاء الحار، وتقابلهم ببكاء شديد، وتوديع حار فردا فردا، فإن الموقف عظيم يستحق التوقف، والمشهد مؤثر يستحق التسجيل والنشر للعالم؛ لإعطاء مثال حي مؤثر لإنسانية هذا الوطن وأهله، ويشكل مع غيره من المواقف المشرفة الكثيرة قوى ناعمة قادرة على تشكيل الصورة الصادقة عنا وعن تعاملنا وإنسانيتنا.
للأسف فإن المواقف نادرة الحدوث، والسلوك الفردي لمتخلف يعنف سائقه، أو شاب مدمن يضرب عامل نظافة، تجد النشر والانتشار والتركيز من إعلام حديث تمثله مواقع التواصل الاجتماعي، ويقوم عليه أناس لا يملكون الحس الإعلامي، وربما لا يملكون الحس الوطني، ويقتصر حسهم على الرغبة في تكثيف المتابعة وبالتالي الاسترزاق من الإعلان، وللأسف تشجعهم بعض القنوات الفضائية عن طريق برامج سطحية تفتقد للإحساس بأهمية الإعلام وخطورته وحساسية تأثيره.
العاملة التي ودعها أكثر من 15 فردا من أسرة واحدة، وعامل النظافة المضروب مجرد أمثلة لتصوير التباين الفادح في التعاطي الإعلامي مع المواقف المشرفة الغالبة، والأخرى المسيئة النادرة، وكيف أننا نظلم مجتمعنا، وذلك بغض الطرف عن القدوة الحسنة المشرفة والتركيز على المسيء.
لكن الأمثلة على هذا التجني الإعلامي أو الغباء الإعلامي كثيرة جدا، وتحتاج لوقفة ورسم خطط إعلامية توظف القوى الناعمة أفضل توظيف، نحن في أمس الحاجة إليه في هذا الوقت تحديدا، فكم من فتاة سعودية برزت وأبدعت في مجالات علمية دقيقة في تخصصات الفيزياء والكيمياء، صعدت لمنصات التتويج العالمي بكامل حشمتها ونقابها وسترها الإسلامي، وتمثل وطنها خير تمثيل، تجاهلها الإعلام المعادي فتجاهلناها نحن بجهل؟ وكم من شاب سعودي مبتعث برز في مجاله العلمي، أو موقفه البطولي بالمخاطرة بنفسه لإنقاذ أرواح آخرين، ولم يجلس على المقعد ذاته الذي يجلس عليه شاب مهرج أو ذو صوت غنائي نشاز؟
رغم مساوئ المجتمع الأميركي وكثرة جرائمه وممارسات جيوشه غير الإنسانية، إلا أن أفلام “هوليوود” صورت للعالم الإنسان الأميركي وكأنه ملاك يقطر إنسانية ورحمة ورقي، واستطاعت التأثير في عدد غير يسير من شعوب العالم، بينما ننتظر نحن مسلسلات تهريج رمضانية شككتنا في أنفسنا، وأساءت لنا، وسخرت من بعضنا، في سباق محموم لانتزاع ضحكة أقرب للبكاء، ونفس أبطال التهريج تمثيلا تحولوا في واقعهم إلى التناحر والشتائم المسيئة إعلاميا؛ لمجرد خلاف على حفنة من الريالات أو بقايا خردة سيارة أو أدوار، وهذا الخلاف وتبادل التهم لمشاهير في حد ذاته إساءة لسمعتنا.. فليتهم لا يعودون.