هكذا كان جواب موسى على سؤال طرحه فرعون “قال فما بال القرون الأولى”، جوابٌ لم يتكلفه موسى ولم يترك لمتعقبٍ مجالاً ليقول “بل نحن نعلم” فالبشر جميعًا لا يعلمون مصائر تلك الأمم والقرون السالفة إلا من ذكر الله نبأه في كتبه المنزلة وآخرها وخاتمها القرآن الكريم، وسيان كان ذلك مصيرها في الدنيا أو في الآخرة، ما لم يكن هناك علم ونبأ يقين من الله تعالى، ولم يكن جواب موسى ولا أجوبة أتباعه ولا إخوانه من المرسلين في علم الغيب إلا “الله أعلم”، أو يكون جوابًا من وحي الله بعيدًا عن التكلفات التي يقف عندها العقل عاجزًا أو متحيرًا، وهذا يدخل أيضًا في تفسير عموم قول الله تعالى عن نبيه “وما أنا من المتكلفين”.
وربما يمر بك -أخي القارئ- ما قد مر بي كثيرًا ويمر بكل من له أدنى معرفة وثقافة، من تلك الأبواب والمداخل والأسئلة التي يطرحها من يضع نفسه موضع “نقد القرآن والإسلام” في شتى وسائل الإعلام ولا سيما في “التواصل الاجتماعي” وتلك الوسائل لا ينبغي لعالم ولا لفقيه ولا لواعظ تجاهلها، وغض الطرف عن مناقشتها ودراستها والرد المقنع والمفصل على مروجها وطارحها، وقد لا يخفى على أحد ما كان عليه الناس قبل عصرنا هذا وما كانت عليه القرون وبالأخص المسلمون في القرون القريبة السابقة، من توارث تصورات ومفاهيم “ليست من الإسلام” قد يصيب بعضها ويخالف الآخر، وإن وجد في أفراد ومجتمعات محدودة من العلم والمعرفة بأمور الدنيا والطبيعة والطب والفيزياء وغيرها، إلا أن الاستفادة من هؤلاء العارفين بتلك العلوم لم تظهر في المجتمعات المسلمة وكان في الغرب ظهورها وخدمتها أكثر، سمعنا ومر بنا وتداول المسلمون ولا سيما علماؤنا، كثيرا من تلك التصورات والجدليات وكانت ردودهم وأجوبتهم وإن اتسمت بالمصداقية والحرص على أهل الإيمان إلا أنها افتقرت للطرح العلمي الذي يدوّن كقاعدة للانطلاق في تناول تلك الشبهات والأسئلة، واكتفى الكثير من الفقهاء بالتحذير من الخوض في تلك المسائل وذلك الطرح، وهو ما لا يستطاع في أيامنا هذه، مع وجود الكم الهائل من وسائل التواصل وبروز كثير من الشخصيات والمشاهير التي تتبنى فكرة السؤال عن التفسير العلمي لكثير من نصوص الكتاب، والتي تيقن المسلمون وآمنوا بدقتها ومصداقيتها بعيدًا عن كل التفسيرات المتكلفة.
غير أن هناك الكثير من الآثار التي يضعها أولئك “المنتقدون” تفتقر إلى المزيد من البيان والتفسير والتوضيح وربما “الجرأة”. فقد تكون هناك أشياء لا تصح أصلاً، وهناك آثار تحتاج إلى شرحٍ وأسلوب أكثر تناسقًا مع الطرح العلمي المشاهد، كأحاديث “سجود الشمس واستئذانها ربها بالشروق” وأحاديث “قوم يأجوج ومأجوج” وغيرها مما لا يعد من “علم الغيب” عند من أمضى حياته وسخر إمكاناته لدراسة الفلك والنجوم والكواكب وخرائط الأرض، فنحن “المسلمين” نسلّم ونؤمن أن ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله فهو حق ويقين كما قال وأخبر، ولكننا مأمورون أن ندعو إلى الله بالعلم، “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”.
والذي ينبغي لعلمائنا وفقهائنا ووعاظنا أن يعلموه، هو أننا لا نخاطب محيطنا؛ من أبناء وبنات وجيران وبني عم فقط، بل قد أصبحت الدعوة شمولية، وأن ما نتكلم به ونطرحه ونحدث به، قد تكفلت التكنولوجيا بنشره وترجمته وطرح مصادره في لحظات، فبمجرد أن تتكلم على منبر أو من على منصة تواصل إلا وحديثك وكلامك يتناقله ويتدارسه العالم كله، فالحرص على أسلوب التناسق بين المنقول والمعقول أمر في غاية الأهمية، وهم يستدلون بقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعقلون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله. هذا، والله من وراء القصد.