يمر المرء بمراحل في حياته والغالب أن تسنح له فرص التهيؤ لمتطلبات كل مرحلة لاحقة أثناء التي قبلها، لكن يتفاوت الناس في استقبال تلك الفرص وقبول ما قدر لهم من التهيئة، فمنهم المحظوظ الذي كلما مرت به ملابسات معينة اكتسب من خلالها تجربة حيوية تؤهله إلى الإنجاز فيما بعد، ويرى الحياة بمثابة مدرسة يتربَّى في كل فصلٍ منها استعداداً للفصول المقبلة، ومنهم من لا يأبه بدورة الحياة، بل ينظر إليها على أنها مجرد تعاقب ليلٍ ونهار، يمرُّ بظرفٍ معينٍ فلا يتأمل في عظاته وعبره، فضلاً عن أن يُكلّف نفسه التكيف بأحوالٍ معينةٍ تنقله من مستوى أدنى إلى مستوى أعلى في دينه أو معاشه أو تفكيره أو علاقته، وعليه فينبغي أن يدرك الإنسان نعمة تهيئة الله تعالى له فرص الرفعة والتقدم، وأن ينتبه لتلك الفرص فلا يُفوِّت شيئاً منها، وفيما يلي نقاط تبين أهمية التهيئة والتهيؤ:
أولاً: التهيئة الكونية الجارية على الإنسان حسبما قدره الله تعالى له، فلأهمية التهيئة يكتب الله لمن يشاء له ذلك أن يمر بتجارب ظاهرها أنها من مشاقِّ الحياة، وباطنها الذي هو مناط الحكمة أنها تهيئة لمهمات أعظم، وأهم أمثلة ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَ رَعَى الْغَنَمَ)، قال ابن بطال رحمه الله تعالى: “ذلك توطئة وتقدمة في تعريفه سياسة العباد، واعتبارًا بأحوال رعاة الغنم، وما يجب على راعيها من اختيار الكلأ لها، وإيرادها أفضل مواردها، واختيار المسرح والمراح لها، وجبر كسيرها، والرفق بضعيفها، ومعرفة أعيانها وحسن تعهدها، فإذا وقف على هذه الأمور كانت مثالاً لرعاية العباد، وهذه حكمةٌ بالغةٌ”، ومن تلك التهيئة بعض الظروف الصعبة التي يمرُّ بها بعض المبدعين في مجالاتهم، فتكون تلك التحديات آلة صقلٍ لمواهبهم لتبرز كوامن الإبداع عندهم، فكم من عالمٍ واجه نوعاً من التعثر في التحصيل، فكان ذلك موقظاً لروح الاجتهاد عنده، وكم من تاجرٍ ناجحٍ عانى في خطواته الأولى، فتحدّى المعاناة حتى نجح.
ثانياً: إلهام المهيأ السعي فيما أريد له الإبداع فيه، فمن أريد له الإنجاز في مجالٍ معينٍ أُلهم الاستعداد لاكتساب مؤهلات ذلك المجال، وكما قيل: إذا قضى الله أمراً وأراده هيأ له أسبابه واكتساب المؤهلات من أهم أسباب الإنجاز، وبهذا الإلهام بسط الله لعباده أنواع المعارف العلمية والحرفية ومهارات الإدارة والقيادة وغيرها، فما هي إلا نتاج التكون التراكمي الذي ينشأ للمتهيئين للفرص، ففي المرحلة الأولى من الجندية يتهيأ الجندي لمسؤولية القيادة التي ربما تُناطُ به إن أُلهم حسن التأسي بقادته وجعل ما يمارسونه مدرسة يتعلم منها، وفي الفصل الدراسي يتهيأ الطالب لأن يكون أستاذاً ناجحاً لا بمجرد فهم المادة العلمية، بل ينضاف إلى ذلك استلهام القدوة من أستاذ له ناجح وهكذا، ومن أول مسؤولية يتولاها الإنسان يتهيأ للوظائف العليا الثقيلة الحمولة؛ ولو بدا منه عدم التهيؤ أثناء أداء وظيفةٍ في إدارةٍ معينةٍ فلن يكون صالحاً لأن يكون مديرها على حدِّ قول الشاعر:
ولِذَاكَ كانُوا لا يُرأَّسُ منهُمُ ** منْ لم يُجرَّبْ حزمُهُ مرؤوسا
مَنْ لم يُقَدْ فَيطِيرَ في خَيْشُومِهِ ** رهجُ الخميسِ فلنْ يقودَ خميسا
ثالثاً: لأهمية التهيؤ للمستقبل يُباحُ بعض ما الأصل في جنسه الحظر، فقد ورد النهي عن اتخاذ صور ذوات الأرواح خصوصاً المجسم الذي له ظِلٌّ ومع ذلك فقد صحَّ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لي صواحب يلعبن معي، «فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمَّعن منه، فُيسربهن إليَّ فيلعبن معي»، والمراد بالبنات اللُّعَبُ التي تلعب بها البنات وهي على صورة البنات، وقد ذكر العلماء أن هذه الصور مخصوصة من النهي السابق وعللوا ذلك بأن فيها تدريب البنات من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن.
وأخيراً: ينبغي للإنسان أن يستلهم الدروس في كل خطوات حياته، وأن يستذكر ما أمكنه مما مرَّ به من أساليب الناجحين في التربية والتعليم والقيادة والتعامل، فلا يغيب عن باله كيف يتصرف الأب فلان أو الأم فلانة -إذا كانا معروفين بحسن التربية- مع تحديات تربية الذرية، وليستذكر دائماً كيف يُعاملُ الأستاذ الناجح فلان طلابه، وكيف يُؤثِّرُ فيهم تأثيره الطيب فليطبق ما رأى عنده على طلبته إذا تقلَّدَ التعليم، وليختزن في ذهنه يوميات المدير فلان الذي عُرِفَ بنجاح إدارته وأثره الطيب على من تربَّى عنده، فإذا صار مديراً فليَخْطُ مثل تلك الخطوات، وهكذا في سائر المجالات.