دخلت عالم الصحافة في شهر سبتمبر من العام 1976 ولم أكن حاصلا على أي تخصص إعلامي، سلاحي إجازة (بكالوريوس) في اللغة العربية وآدابها وسنة ثالثة في كلية الحقوق.
ولتكتمل الصورة لا بد من أن أضيء قليلا على قصتي.
كنت طالبا جامعيا أدرس الأدب العربي في الجامعة اللبنانية مع منحة، وكانت آمالي كبيرة بحجم تفوقي، وكنت أخطط بعد نيل شهادة الماجستير في الجامعة ذاتها للمغادرة إلى فرنسا لاستكمال دراسة الدكتوراه في جامعة السوربون، وعن طريق المنحة أيضا، لذا كنت أبذل قصارى جهدي كي أكون متفوقا، بل الأول على دفعتي.
ولأن الأقدار بيد الله سبحانه وتعالى، فقد غيّرت الحرب الأهلية التي عصفت ببلدي لبنان مسيرة حياتي برمتها، ووجدتني يوما إثر آخر أجهد نفسي في التفكير، متى تنتهي الحرب القاتلة، لأعود إلى جامعتي وأكمل حلمي، لكن قدر الله وما شاء فعل.
كانت الظروف تزداد سوءا، ولا أخجل إن اعترفت بانه أتى علي يوم لا أملك فيه ثمنا لعلبة سجائر، حيث كنت أطفىء كل همومي في سيجارة تتلوها أخرى وكان لا بد من أن أفكر بمستقبلي وماذا سأفعل.
سنحت لي فرصة الحصول على بطاقة زيارة الى الحبيبة الكويت، فغادرت بلدي على متن سيارة نقل خارجي محملة بالحمضيات، تودّعني دموع جدتي لأمي وأمي، وأنا أغالب دموعي، آملا أن لا يطول غيابي وأعود إلى سيرتي الأولى، لكن هيهات فقد كان ذلك حلما بعيد المنال.
عملت أولا ككاتب خشب على الميناء، بمعنى أنني كنت أعدّ الخشب وكان راتبي ثمانين دينارا، نصفها للأهل في لبنان والنصف الآخر لي.
كنت كثير التفكير كيف من الممكن أن أزيد دخلي، فهداني بعض المقربين إلى أن أتقدم إلى جريدة القبس الغراء، فأنا، وفقا لهم، لدي إمكانات جيدة، شاب طموح، ومجاز في اللغة العربية وآدابها، ولن يستحيل علي أن أجد فرصة ربما تغيّر مجرى حياتي برمتها.
وهكذا كان، فقد تقدمت إلى الجريدة وقابلت مدير التحرير (رحمه الله) الذي أجرى لي اختبارا نجحت فيه بتفوق، ورأى أن خامتي التثقيفية والتعليمية تؤهلني أن أكون صحافيا، وطلب مني أن أداوم في اليوم التالي، وهكذا كان.
أول مرتب لي في جريدة القبس كان 76 دينارا يضاف إليه مبلغ 15 دينارا كبدل عن العمل أيام الجمعة والعطل الرسمية، يعني فإن إجمالي الراتب يصل إلى 90 دينارا.
داومت على عملي الصباحي في شركة الأخشاب، والمسائي في جريدة القبس، التي تم تعييني فيها على أساس “بارت تايم” والتي كنت أدخلها في السادسة مساء ولا أغادرها إلا بعد مثول الجريدة للطباعة في الثانية فجرا، وأحيانا في الثالثة، يعني بواقع ثماني ساعات في المعدل على أقل تقدير.
يوما ما أيضا سنحت لي فرصة التفرغ في جريدتي، وكدت أطير من الفرح عندما أخبرني مدير التحرير حينها أنني مؤهل للتفرغ، وألح علي أن أقبل الفرصة التي قد لا تتكرر في القريب العاجل وكنت أكثر منه إلحاحا على نفسي، وقّعت عقد العمل الجديد وكان يجمع بين راتبي الاول في الجريدة والثمانين دينارا من عدّ الخشب على الميناء ويزيد.
وهكذا بدأت قصتي مع الصحافة التي ازدادت عشقا مع الأيام، وباتت الجريدة بيتي، حتى عندما تزوجت (ولا أذكر أنني حصلت على إجازة أكثر من يوم واحد عندما اقترنت بشريكة عمري) فقد كانت ظروف العمل تستدعي مني أن أداوم، فيوم واحد كشهر عسل يكفي لمثلي ممن انتهج درب الصحافة، وإلا فإنه لن يكون صحافيا.
لن أتحدث كثيرا في هذا المقال عن سيرتي الصحفية، فقد يكون ذلك في يوم آخر، لكنني ومن واقع خبرتي أؤكد أن الأحلام قابلة للتحقيق بكثير من العمل ومثله من الصبر والأمل وعدم اليأس، وهنا أذكر أنني كثيرا ما نمت على أريكة في صالون الجريدة، خصوصا في الأيام الممطرة حين لم أكن أمتلك سيارة وأتعفف عن الطلب من بعض الزملاء ليقلوني إلى حيث أسكن، فقد كنت أقدر حاجتهم إلى الدقائق التي يضيفونها على فاتورة الوقت من الجريدة إلى بيوتهم، كي يرتاحوا ويناموا بعض الوقت استعدادا ليوم عمل آخر.
رسالتي إلى الشباب من الصحافيين، أن يؤمنوا بأن الصحافة رسالة وأمانة، وسنتحدث يوما عن صفات الصحافي الناجح، لكن هذه النصيحة من أب أو جد لهم واجبة في هذه الإطلالة، علها تشدّ من أزرهم، فيطوون اليأس خلف ظهورهم ويشحذون الهمة لمزيد من العطاء والتألق.
دخلت عالم الصحافة “بارت تايم”، وضعت لنفسي هدفا أن أكون صحافيا ناجحا، تعبت، صبرت، كافحت، قليلا ما كنت أتذوق طعم النوم، لكنني نلت ثمن تعبي، ترقيت من رتبة محرر إلى رئيس قسم فسكرتير تحرير ونائب مدير تحرير ومدير تحرير، وغادرت مبنى صحيفتي عندما قررت التفرغ لعملي الخاص مستشارا.
أيها الصحافيون الشباب، فعلا من جدّ وجد ومن زرع حصد. اجتهدوا وستحصدون يوما ثمن بذاركم خيرا عميما.