ثلاثة أحداث مرّت علي في حياتي وأنا في سن الصبا طبعت مستقبلي، وغيّرت مجرى طريق صبي منذ سن السادسة.
الأول عندما حان موعد دخولي إلى المدرسة في سن السادسة. ومن عادة ذلك الزمان أن يصطحب ولي الأمر ابنه إلى المدرسة ليدفع رسم التسجيل، ومن ثم يأخذ الناظر الوالد والطفل في جولة على فصول المدرسة ليعرّف التلميذ الجديد على فصله الدراسي.
الوالد رحمه الله كان يذهب يوميا من قريتنا الصغيرة إلى عمله في مدينة صيدا حيث مكتبه لإنجاز معاملات بيع وشراء السيارات، وكان من المستحيل أن يعطل يومه من أجل أن يسجلني في المدرسة، حتى لا يضيع عليه مردود يوم عمل، يسكت به نفقات معيشة عائلة مكونة من ثمانية أفراد.
أما الوالدة رحمها الله فقد كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب، وبالطبع كأمهات ذلك الزمن كان في انتظارها عمل كثير، إن لجهة الطبخ أو إعداد الخبز وغير ذلك من أعمال زراعية في حديقتها الكبيرة، الزاخرة بأشتال البندورة والخس والخيار والفلفل والباذنجان، وكل ما تشتهيه نفسك من خضار، وبالتالي كان من الصعب أن تترك كل هذا من أجل أن تسجلني في المدرسة.
أذكر أن المرحوم والدي أعطاني قبل أن يتوجه إلى عمله بطاقة هويتي ومبلغ ست ليرات لبنانية رسم التسجيل، واحتضنني مقبلا وجنتي قائلا لي: أنت اليوم بت رجلا وفي الغد ستذهب إلى مدرستك، فهل تعرف الطريق الى المدرسة؟
أجبته: بالطبع يا والدي، وإن لم أعرف فسأسأل وهناك من دون شك من سيرشدني.
أعجبته عبارتي، فقال لي: هذه بطاقة هويتك ومبلغ ست ليرات وعليك أن ترتدي أفضل ملابسك لأنك ستذهب بمفردك إلى المدرسة لتسجل نفسك، ونفحني خمسة قروش مكافأة، ولا أذكر أنه انتظر مني جوابا.
وهكذا نفذت التعليمات بالحرف، وكنت التلميذ الوحيد الذي يلتقي مدير المدرسة والناظر من دون أن يصحب الاهل، وأتذكر أن إدارة المدرسة أعجبت بشطارتي فاحتفت بي عن طريق التصفيق.
وعندما عدت إلى بيتنا شعرت على صغري أنني كبرت، وكنت فخورا ومزهوا جدا بنفسي، ولا أزال حتى اليوم أحتفظ ببطاقة هويتي تلك وهي من دون صورة بالطبع.
أما الحدث الثاني فيتمثل في أنني تعودت على درب التفوق منذ الصف الربع الابتدائي، وكانت تجرى لنا امتحانات شهرية، وكان ترتيبي الأول، وعندما حملت الشهادة إلى الوالد ليوقعها احتفى بي الأهل وكأنهم اكتشفوا مخترعا عظيما.
في الشهر التالي كانت ترتيبي الخامس، وحملت شهادتي كالعادة إلى الوالد ليوقعها، ففوجىء بأنني تراجعت أربع مراتب، وبدا عليه الانزعاج، فناداني موبخا بحنان الأب، وأعطاني درسا لم أنسه، وهو وجوب أن أستعيد ترتيبي الاول، فمن غير الجائز أن أعطي مكاني لأحد آخر، وأدركت على صغر سني ما يرمي إليه، و اجتهدت في الشهر الثالث واستعدت المرتبة الاولى التي بقيت في حوزتي منذ ذلك الشهر سنوات طويلة، فلم أكن أرضى أن أكون إلا الاول، حتى في الامتحانات الرسمية التي تلت، والجامعية أيضا.
الحدث الثالث، وقع عندما كنت وباقة من أترابي نقطف الزعتر الأخضر البري من على تلال قريتنا، والزعتر في زماننا هو مونة رئيسية لا يخلو منها أي بيت.
تشاجر معي أحد الرفاق وكان أكبر مني سنا بحوالي أربعة أعوام، وعندما أراد أن يعتدي علي بالضرب تصديت له وتغلبت عليه، فقد كنت حينها في الثانية عشرة وأمارس رياضة كمال الأجسام في ناد بسيط في القرية، وأذكر أنني ألقيته أرضا وقد أدميته.
من عادة الأهل في تلك الأيام أن يأخذوا ابنهم المضروب إلى بيت الضارب ليتم الاقتصاص منه على مرأى منهم، وعندما حضر أهل الرفيق المضروب انتظروني فلم أرجع إلى البيت مبكرا في ذلك اليوم، لأنني كنت قد نسيت الحادثة، و استغرقنا رفاقي وأنا في جمع الزعتر ومن ثم ذهبنا إلى بيدر المدرسة نلهو ونلعب، وكنت قد نسيت الحادثة تماما.
وأخيرا عدت إلى البيت فوجدت والدي في انتظاري، حيث بادرني بالسؤال ماذا فعلت اليوم؟ لم يدر في خلدي أنه علم بحادثة الضرب، فأجبته بأنني كنت أجمع الزعتر مع مجموعة من الرفاق، لكنه وجه لي سؤالا مباشرا: لماذا ضربت رفيقك (فلانا) حتى أدميته؟ فحكيت له الرواية من أولها إلى آخرها، مؤكدا أنني من كان المعتدى عليه وما فعلته كان مجرد دفاع عن النفس.
كنت أتوقع أن أتلقى علقة ساخنة، غير أن الوالد سلك طريقا آخر، علمني درسا مهما في الحياة بدلا من أن يضربني.
قال لي: يا بني حتى لو اعتدى عليك أحد فلا ترد الإساءة بمثلها، ذلك ليس عيبا بل هو من شيم الرجال. يا بني خير لك أن تنام مظلوما من أن تنام ظالما.
ما زلت أحفظ ذلك الدرس حتى اليوم.
لقد علمني رحمه الله أن الحياة رحلة وأوصاني: كن يا بني صادقا.. ضميرا.. إنسانا.. كن شاكرا لنعم الله وتأكد أن بالشكر تدوم النعم.. كن قنوعا فالقناعة كنز لا يفنى.. يا بني إن الحياة رحلة قصيرة مهما طالت وخير زاد فيها التقوى ومخافة الله.. محبة الناس .. البر بالوالدين.. الترفق بمسكين أو ضعيف .. التواضع.. ولا تمش في الأرض مرحا.. الصبر على المكاره.. وصل الأرحام.. حرمة الجار.. خير الأمور الوسط.. كن مع الله ولا تبالي.. وكثير من الحكم التي حفظتها عن ظهر قلب وعملت بها.