• 11:47:58am

أحدث الموضوعات

أنقذتني امرأة

تعليقات : 0

أصداء الخليج
بقلم: أحمد مكي

 

في الأيام الأخيرة لرحلة العام 1978 إلى بلدي لبنان من أجل مناقشة رسالة الماجستير حدث ما لم يكن في الحسبان.

ازدحمت رحلة المئة يوم بالكثير من الخواطر والمفارقات والمشاهدات والكثير الكثير من العواطف.

كنت أسير مكتبي الذي وضعته على شرفة بيت العائلة، المطلة على جبل الشيخ، الذي كان رفيقي في تلك الرحلة.

كنت أعمل على مدار 20 ساعة يوميا بين تنقيب في المراجع والكتابة، وكانت أجمل اللحظات تلك التي يعم فيها السكون، وتنام العائلة جميعها، فيذهب قلبي في رحلة حب تمتد من بلدتي إلى مهجري حيث عائلتي، زوجتي وابنتي البكر التي فارقتها وعمرها يوم واحد، مترقبا الفجر، لتطل من بين خيوط ضوئه الفضي جدتي لأمي تفتح باب غرفتها من أجل أن تتوضأ وتصلي.

كانت سيمفونية يومية روتينية لكن ليس بطعم الروتين بل بطعم الشهد.

القصة ليست هنا، هذه مجرد مقدمة، الرواية هناك عند سيدة أدين لها بحياتي، لم أرها يوما قبل أن ألتقيها صدفة في سيارة أجرة، لكنها أنقذتني من براثن مسلح، حتى أنها كانت مستعدة أن تقدم حياتها افتداء لحياتي.

كنت عائدا من جامعتي بعد أن وضعت اللمسات النهائية على أطروحتي وباشرت في طباعتها، وحددت مع الأساتذة المشرفين موعدا لمناقشتها.

كان علي أن أقطع رحلة العودة إلى بيت العائلة حيث كنت أقيم، على خط بيروت .. صيدا، فلم تكن هناك سيارات أجرة مباشرة من بيروت إلى بلدتي في قضاء النبطية، ومن صيدا أستقل سيارة إلى البلدة.

طوال الطريق من بيروت إلى صيدا، كنت مأخوذا بشعورين، الأول فراق العائلة التي أقمت بين جوانحها مئة يوم، وبت لا أطيق فراقا، وعائلتي في وطن الغربة التي اشتقت إليها كثيرا خصوصا مع ندرة وسائل الاتصال في تلك الأيام.

ومن صيدا ركبت سيارة الأجرة، كنا خمسة ركاب، اثنان إلى جانب السائق، وثلاثة في المقعد الخلفي، أنا متوسطا سيدة ستينية ورجلا يقاربها في العمر.

لم أدر لماذا انقبض قلبي منذ تحرك السائق فيما كان من المفروض أن أكون سعيدا، فقد وصلت إلى نهاية رحلتي في لبنان، وأخذني الشوق إلى أحبتي، زوجتي وطفلتي، وإلى عملي، حيث كنت في غاية الاستعجال للعودة إلى جريدتي، مكتبي وزملاء المهنة، إلى مصدر رزقي.

كانت الأحداث الأمنية تعصف ببلدي الذي مزقته الحرب الأهلية، وما أدراك ما الحرب الاهلية، وما إن قطعنا منتصف الطريق حتى فوجئنا بسيل من القذائف العشوائية تنهال على خط سيرنا وتستهدف مناطق على أطرافه، كانت معركة بين فصيلين مسلحين، وكان كل من يعيش في محيط القصف معرضا للموت أو الإصابة، ومن رحمة الله بنا صادف أن كنا قريبين من فرن على كتف الطريق، توقف السائق، احتمينا بالفرن إلى أن خفت حدة القتال، واعتقدنا (الركاب) أننا صرنا في أمان فركبنا السيارة مطالبين السائق أن يسرع، فكل منا يبتغي السلامة.

أشرفنا على مداخل بلدتي، فوجئنا بحاجز أمني لمجموعة مسلحين من أحد الفصائل التي كان يعج بها وطني في تلك الأيام، أوقفنا أحد المسلحين، طلب الهويات الثبوتية، أطل برأسه من النافذة متمعنا في وجوه الركاب، وفجأة وكالثور الهائج طلب مني أن أترجل.

مسلح يطلب منك الترجل في ظروف انعدمت فيها كل حبال الأمان، أنت لا تعرفه ولا هو يعرفك، ماذا تفعل.

حاولت أن أبقى هادئا فلا أُستَفز ولا أَستَفز، غير أنني امتنعت عن الترجل من السيارة، ونظرت في عيني المسلح الذي حاول أن يفتح الباب عنوة، وإذ بالسيدة الجالسة إلى جانبي تحتضنني وتتشبث بي وترفض أن أترجل.

استفز تصرفها المسلح الذي كان وقحا فوجه لها سيلا من الشتائم ردت عليها بالمثل، فوجه سلاحه ناحيتي ويده على الزناد، غير أنها كانت أقوى من ترهيبه، فوجهت الفوهة نحو صدرها وخاطبته: إن كنت تريده فاقتلني أولا.

فجأة رأينا المسلح يسحب رشاشه ويعطينا هوياتنا الثبوتية ويطلب من السائق أن يتحرك.

المشهد كله لم يستغرق دقائق، وكان من الصعب عليك أن تحصي درجة تجهم وجوه الركاب الذين صعقوا لما حدث، وماذا كان بمقدورهم أن يفعلوا في مواجهة مسلح جل ثقافته أنه يحمل سلاحا.

 نظرت في عيني السيدة التي أخجلتني، فبادلتني النظرة وفي العينين دموع، شدّت على يدي قائلة: كان من المستحيل أن أتركهم يأخذونك.

بقيت صامدا حتى وصلت إلى البيت، تحاشيت أن أخبر العائلة بما حدث فأزيد من قلقهم، غير أنني اختليت بنفسي في غرفتي ورحت في نوبة من الوجع وأنا أفكر في هذه السيدة التي رفضت حتى أن أشكرها ووعدتني أن تزور عائلتي عندما وصلت إلى محطتي في يوم ما، وودعتني وكأنها تعرفني منذ النشأة، وانتظرت كثيرا لكنها لم تأت.

نعم أنقذتني سيدة لا أعرفها ولا تعرفني، كنا مجرد رفاق طريق كل يقصد محطة.

عندما تكون في رعاية الرحمن الرحيم الرؤوف بعباده تيقّن أنه لن يصيبك أذى أيا كان طالب الشر، وحتى لو كان يحمل سلاحا وأنت أعزل.

يقولون أن العين لا تقاوم المخرز، لكنّ عيني منقذتي لم تكونا فقط أقوى من المخرز، بل أقوى حتى من الرصاصة.

أضف تعليقك

برجاء الكتابة باللغة العربية فقط comments are disable

قصة كتبها : سيف الوايل

د.سعود بن صالح المصيبيح

يوسف الذكرالله

يوسف أحمد الحسن

يوسف أحمد الحسن

بقلم | محمد بن عبدالله آل شملان

لواء . محمد مرعي العمري

بقلم | هدى حسن القحطاني

يوسف أحمد الحسن

التغريدات