• 11:37:36am

أحدث الموضوعات

المسكين و”الفرنك” ودرس الإنسانية

تعليقات : 0

أصداء الخليج
بقلم: أحمد مكي

أذكر في صغري، وكنت في التاسعة أو العاشرة من عمري، أنني كنت ألتقي في طريقي إلى المدرسة بمسكين كان يجلس قبالة بيته في أحد الأزقة المؤدية إلى المدرسة يستعطي الناس الخيّرين فيكرمونه بما تجود به أنفسهم.

يوما، وقفت أمام هذا الفقير، مددت يدي إلى مصروفي في جيبي وكان عبارة عن قطعة نقدية من فئة الخمسة قروش “الفرنك” قبضت عليه، قلبته يمنة ويسرة، ضغطت عليه وكأنني أريد أن ألويه، وأخيرا سحبته من عنق جيبي ومنحته للفقير، رأيت في يده الممدودة أخاديد الزمن التي حفرت رحلة عمر ربما قاربت التسعين عاما.

لم أقوَ على التمعن في عينيه الدامعتين وهو يتناول الفرنك يقفل كفه عليه، داعيا لي بطول العمر.

أرهبني المشهد، سرت في جسدي قشعريرة لم أعهد مثلها من قبل، وشعرت بإحساس غريب من السعادة والألم وأكملت طريقي إلى مدرستي.

وهكذا اعتدت أن أقف بين يوم وآخر أمام هذا المسكين أنفحه مصروفي اليومي، وأنا أتساءل: ما ضير أن أكون اليوم من دون مصروف، هو مجرد فرنك قد أشتري به بعض الحلوى أو بعضا من حبات التمر (كنت أعشق التمر الأشقر) ففي حقيبة مدرستي (وكانت عبارة عن كيس مطرز من الخام الأبيض) صنعته لي والدتي رحمها الله بمهارتها العالية، وجعلت له جيبا وزرا للإقفال، وهذا كان شأن الكثيرين من زملاء الدراسة في تلك الأيام (قبل حوالي الستين عاما) في هذه الحقيبة ساندويش من الزعتر البلدي (وماله الزعتر فهو مفيد وصحي).

أول درس تعلمته من هذا المسكين هو أن زرع في نفسي الندية معنى الانسانية، قيمة العطاء ومغزى أن تساعد كبيرا في السن اضطرته الظروف أن يطلب الحسنة من أهلها.

سألت يوما والدي رحمه الله عن هذا المسكين، بالطبع دون أن أخبره بقصتي معه، على مبدأ من أن (دع يسارك لا تعلم بما أعطت يمينك)، فحكى لي قصته وملخصها أن هذا المسكين كان في شبابه مكافحا من أجل لقمة العيش (كان يعمل حمالا) ويوما وكان ناء تحت حمله الثقيل وقع وتضرر عموده الفقري وبات يعاني نوعا من الشلل تفاقم مع مرور الأيام لأنه لم يكن في تلك الحقبة الزمنية طب بالمفهوم الحديث، ولم تكن لديه أسرة (كان مقطوعا من شجرة) كما يقولون.

وعرّج والدي في معرض حديثه إلى ضرورة مساعدة المساكين وعلّمني أن القرآن الكريم حض على ذلك في قول الرحمن الرحيم بعد بسم الله الرحمن الرحيم “وأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث”.

سعدت جدا لدرس والدي ومضيت على سيرتي في صداقتي مع المسكين، إلى أن أتى يوم لم أصادفه أمام منزله، فاعتقدت أنه ربما كان مريضا، أو أن النوم غلبه فمضيت في طريقي، وأذكر أنني لم أتصرف بالفرنك لأنني اعتبرته من حق المسكين وأضمرت في نفسي أن أعطيه له في الغد مع الفرنك الجديد.

بعد عودتي إلى المنزل علمت من الوالد أن المسكين رحل الى رحمة الله سبحانه وتعالى، فحزنت جدا إلى درجة البكاء وأحسست بخواء في داخلي، وصممت على أن أشارك في تشييعه.

أمام منزله توقفت مع بضعة رجال أتوا لحمل جثمان الراحل إلى مثواه الأخير، دخلت المنزل الذي كان عبارة عن غرفة في غاية البساطة لا تزيد مساحتها عن ثلاثة أمتار في ثلاثة أمتار، جل ما فيها صندوق خشبي عليه فراش عتيق وغطاء، وفي زاوية منها بضعة مسامير اخترقت الجدار  معلق عليها قميصان وبنطلونان أكل الدهر عليهما وشرب وطاقية من الصوف، وفي زاوية أخرى خزانة خشبية عمرها عشرات من السنين تضم صحنين وملعقة وسكينا، وأمامها طاولة خشبية عتيقة كما صاحبها ومصباح ينار بالكاز ولا شيء أكثر من ذلك.

أدمعت وأنا أرى الراحل محمولا في رحلته الأخيرة، ولم أكن قد تعرفت بعد إلى الشاعر أبي العتاهية الذي يقول:

“وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته

 يوما على آلة حدباء محمول”.

أذكر أنني من دون أن أشعر وضعت على الطاولة العتيقة “فرنك الأمس وفرنك اليوم” ومضيت دامعا، وحاولت من حينها أن أجد طريقا آخر يوصلني إلى المدرسة غير الطريق الذي كنت أصادف فيه المسكين يوميا حتى لا يثير في نفسي الحزن والشجن.

كان معلما لي، أضاء قلبي يوما بإحساس الانسانية والإيثار ومعنى أن تعطي من دون مقابل، أن تساعد دون أن تسأل عن فائدة وعائد، أن تكون إنسانا ملء قلبك ووجدانك وضميرك.

ليس بالمال وحده يحيا الانسان.. بل بالإنسانية وحب الآخر وإيثاره على نفسه.. أن يشعر بأن للحياة معنى وليس أكثر من العطاء من يمنحه هذا الشعور.

الفقير علمني درسا لم أنسه ولن أنساه.

أضف تعليقك

برجاء الكتابة باللغة العربية فقط comments are disable

قصة كتبها : سيف الوايل

د.سعود بن صالح المصيبيح

يوسف الذكرالله

يوسف أحمد الحسن

يوسف أحمد الحسن

بقلم | محمد بن عبدالله آل شملان

لواء . محمد مرعي العمري

بقلم | هدى حسن القحطاني

يوسف أحمد الحسن

التغريدات