تسلّقت السلم في حياتي الصحافية درجة تلو أخرى، وربما كلمة صعدت أفضل من تسلّقت، لأن التسلّق يحمل معنيين، إيجابي أو طبيعي من مثل تسلّق الجبل، أي صعد الى قمة الجبل، وسلبي من مثل تسلّق في مهنته أو وظيفته، بمعنى أنه قد يكون تملّق أو نافق حتى يصل، ومن يقوم بهذا الفعل هو المتسلّق بالمفرد، وجمعه متسلّقون.
وحتى لا نضيع بين المفردات والمرادفات وأضدادها، مع أنه موضوع جميل جدا يوضح غنى وثراء لغتنا الجميلة لغة الضاد، لندخل في الموضوع مباشرة علّه يكون عبرة للشباب المستجد في مهنة المتاعب أو مهنة الشغف، كل حسب ما يرى.
بدأت محررا، وارتقيت الدرج، بعد أن بنيته حجرا في إثر حجر، كابدت، تعبت، سهرت، نمت ليالي كثيرة على كنبة في صالون الجريدة، تعلّمت، أصغيت، حاولت جاهدا أن أكون مثاليا حتى أتجنب النقد وأتحاشى أن توجّه لي ملاحظة، وأجزم أنني ربما نجحت في ذلك إلى حد كبير، لكن الثمن كان كبيرا، دفعته من صحتي، ومن البعاد عن عائلتي التي قلما كنت أراها، ولا أبالغ في ذلك.
أذكر أنني كنت مدير تحرير الشؤون المحلية في إحدى الصحف العزيزة على قلبي، وكنت أعمل لما يزيد على عشرين ساعة يوميا، أشرب قهوة بكثرة وأدخن أكثر من علبتي سجائر يوميا، كانت ظروف العمل تستدعي مني بذل جهد كبير، حيث كنا قد وضعنا خارطة طريق لتطوير العمل، وكان العبء الأكبر يقع على عاتقي، وقد قبلت التحدي.
يوما أحسست بألم شديد في البطن، تجاوزت الأمر وقلت ربما هذا الوجع ناجم عن وجبة ما أو صنف معين من الطعام، وحتى لا أسترسل فقد استمر الألم لأكثر من أسبوع وأنا لا أزور طبيبا ولا أنقطع عن العمل، إلى أن حلّ يوم لم أستطع الوقوف، جلست على الأرض من شدة الألم، وحملني الزملاء إلى المستشفى، ودخلت على الفور غرفة العمليات، بعد تشخيص سريع، وخضعت لمبضع الجراح الذي أفادني بعد العملية أن وضعي كان حرجا جدا، وأنه اضطر إلى استئصال الزائدة الدودية اولا، على الرغم من أنها ليست ملتهبة وليس الألم ناتجا عنها، ومن ثم فتح بطني ليعرف مما أعاني، فوجد أن المعدة مثقوبة وأن ما يدخل إليها يتسرب منها، والحمد لله نجحت العملية، وعدت إلى عملي بعد أسبوع دون حتى أن أكمل فترة النقاهة.
يوما أيضا، كنت رئيسا لقسم الاقتصاد في صحيفة عزيزة على القلب، وكتبت تحليلا عن احتياطي الذهب في الدول العربية، وقد أعجب المقال مدير التحرير، فهاتفني معلنا أن المقال سيكون مادة لافتتاحية الجريدة، وطلب مني أن أجهز مقالا بديلا وأقفل السماعة حتى دون أن يسمع رأيي.
يوما أيضا، كُلّفت بوضع محاور ندوة تستضيفها جريدتي وتدعو إليها عددا من أساتذة علم الاجتماع وخبراء صحيين، لمناقشة قضية مجتمعية مهمة تخص الشباب، سهرت حتى الصباح وأنا أجهزّ المحاور، لم أتأفف أو أشكو، وكنت إذا تأخر الوقت عليّ في الجريدة أحمل بعضا من العمل لأنجزه في البيت، ولا أزال أتذكر إشادة نائب رئيس التحرير بمضمون المحاور وتنويه الأساتذة الجامعيين الذين أعجبتهم جدا المقدمة، حتى أن بعضهم ولفرط إعجابه أسرّ إلينا لاحقا أنه وافق على الحضور لمجرد أن قرأ المدخل الى محاور الندوة ولم يكمل القراءة.
ووفاء للكلمة وذكريات الأيام الخوالي، فإن هذا الجهد كان يقابَل بمكافأة، وإن كنت أصرّ على أنني أقوم بواجبي المهني الذي لا يحتاج إلى مكافأة.
أعتذر إن كنت أسرد بعضا من خواطري أو ذكرياتي، لكن عذري في ذلك أن أنقل تجربة إلى الشباب الطامح للعمل في هذه المهنة، ليتيّقن أن للنجاح ضريبة، وأنه عندما يفعل ذلك سيصل سعيدا بما أعطى، قانعا راضيا عن نفسه وليس أجمل من الرضا والقناعة.
أن تكون صحافيا، يعني أنك وافقت على أن تتخلى مسبقا عن كثير من رفاهية بعض المهن الأخرى، فالصحافة ليست مجرد بطاقة للتباهي، أو طريق إلى الشهرة، هي انتماء إلى مجتمع، وطن، عالم، شعاره الصدق والمصداقية، أداء الأمانة والرسالة بمسؤولية وطيب خاطر.