في طريقي إلى العمل كنت أسلك طريقا معينا اعتدت عليه، حفظته وحفظني.
على أحد الدوارات في الطريق كنت أرى طفلا، أو لأقل صبيا صغيرا لا يتجاوز العاشرة، يجلس على الرصيف وأمامه كومة من حبات البطيخ وفي يده كتاب.
شاهدته مرة واثنتين وثلاثا، بالثياب نفسها، حتى بات معلما لا تخطئه العين.
أردت أن أكشف السر، وقد رقّ قلبي كثيرا لهذا الصبي، وأدركت أن وراءه قصة، إن لم تكن غصة.
في أحد الأيام أوقفت سيارتي بمحاذاته، نزلت واتجهت ناحيته.
صباح الخير يا بني. انتفض، ربما لم يكن يسمع هذه العبارة كثيرا من المارة ممن يتوقفون لشراء بطيخة أو أكثر.
ردّ التحية بأدب جم ووقف من جلسته على الرصيف سائلا إياي: هل تريد يا عم أن تشتري؟
أجبته: بالطبع يا بني أريد أن أشتري، وقد أشتري بطيخك كله، لكن قبل ذلك أريدك أن تفسر لي سبب بيعك للبطيخ، وفي يدك كتاب، هل أنت طالب في المدرسة؟
طأطأ رأسه قليلا ثم أجاب: أنا ابن عائلة فقيرة، والدي عامل على قد الحال، ووالدتي بالطبع لا تعمل فهي ربة أسرة تعتني بأخوتي الثلاثة الأصغر مني سنا.
تسألني يا عم لماذا أبيع البطيخ، والجواب أنني أسعى لمساعدة والدي على تحمل نفقات المعيشة. أنا أشتري البطيخ من محل معين وأبيعه هنا للمارة ممن يرغبون في توفير وقتهم بالذهاب إلى السوق فيشترون بطيخي الذي أُحَمّله مبلغ ربح بسيطا، فأوفر عليهم وقتهم وأربح قليلا، والحمد لله الأمور جيدة، وما أجنيه أعطيه لوالدي مساهمة مني في مصروف البيت.
أما قصة الكتاب، فأنا طالب في مدرسة مسائية، ولا أخجل من أن أكون بائع بطيخ في الصباح وطالبا في المساء. أمامي أحلام كثيرة، أتطلع إلى أن أصبح طبيبا يوما ما.
اشتريت منه بطيخاته وسط دهشته، غير أنه ربما علم الهدف من وراء ذلك، أراد أن يكرمني بخصم، فحاولت أنا أن أكرمه وكلي خجل من كرمه، ولم تنته قصتي معه عند هذا الحد فقد أصبح صديقي وحكايتي معه أحتفظ بها لنفسي.
طبعا تكررت كثيرا قصة شراء البطيخات من بسطة الصبي في موسم البطيخ، وتوسّع في “تجارته” في غير الموسم حيث كان يعرض على بسطته بعض الفواكه والخضراوات الموسمية، وداومت على الشراء منه كون أن بضاعته كانت جيدة.
بالطبع أنا أتحدث عن القصة من جانب اجتماعي إنساني، مع علمي بأن البيع على ناصية الشارع مخالف للقانون، ولكن في عرفي فإن لكل حالة شواذ واستثناءات.
وللأمانة، فقد توثقت صداقتنا لسنوات، وكنت أشجعه على الدراسة، وأحضّه على أن لا تنهزم إرادته تحت أي ظرف من الظروف، كنت أودّ أن أساعده أكثر لكن لم أشأ في داخلي أن أكسر عنفوانه وكبرياءه، لأنني لو كنت مكانه فلن أقبل بالطبع أي مساعدة ولا حسنة ولا صدقة، طالما كنت قادرا على أن أدبّر أموري.
وأتى يوم افتقدته فيه، كانت امتحانات الثانوية العامة على الأبواب، ولا شك أنه حجز نفسه في البيت كي يدرس، وعندما صدرت النتائج فتشت عن اسمه بين الناجحين وكان فعلا منهم وبتفوق، سررت كثيرا من أجله، لكنني وجهت اللوم إلى نفسي كوني لم أطلب يوما عنوانه، لكنت زرته وقدمت له التهنئة بالنجاح، ولكن لم يكن في مقدوري أن أطلب منه العنوان، أيضا لأسباب تتعلق بكبريائه، فقد يظن أنني قد أرغب في تقديم مساعدة ما، وهذا ما لا يرتضيه وما كنت لأرضاه لو كنت في مثل وضعه.
أسوق هذه الواقعة لأدلل على صفة الايثار، فقد فضل هذا الصبي الصغير أن يستيقظ من نومه كل يوم باكرا ليتسوق ومن ثم يباشر تجارته المتواضعة، كي يقف إلى جانب والده في تحمل نفقات المعيشة، وكان الأجدر أن يكون مثل بقية أقرانه الصغار، ينام كما ينامون ويستيقظ كما يستيقظون ويذهب إلى مدرسة نهارية كما يفعلون، ولا يحملون هم معيشتهم طالما أن والديهم أحياء يرزقون ويعملون.
هذه السالفة مضت عليها سنون طويلة، وربما أصبح بائع البطيخ الصغير طبيبا، بل وطبيبا مشهورا، لأنه كان يعرف ماذا يريد منذ البداية، ومن يعرف ما يريد لا بد من أن يصل إلى هدفه يوما.
أما أنا فقد داومت على سلوك الطريق نفسه المؤدي الى عملي، وكنت أدقق النظر في الدوار، كان خاليا من بائع البطيخ، لكن صورته كانت لا تزال ماثلة أمام ناظري، وحتى بعد التقاعد من عملي وعدم ذهابي الى الدوام يوميا، فإنني لا أتأخر بين فترة وأخرى عن المرور في الطريق نفسه، وإمعان النظر في الدوار، فيما صديقي في مكان آخر، وأرجو أن يكون كما كان يأمل، طبيبا يمارس مهنته الإنسانية، مع رجاء في داخلي.. ليتني ألتقي به مرة أخرى.