أذكر من مسيرتي الصحفية أنه تم تعييني في العام 1979 رئيسا لقسم الاقتصاد في جريدتي الأولى العزيزة على قلبي جدا، وكنت حينها أصغر رئيس قسم سنا حيث لم يكن عمري يتجاوز الثامنة والعشرين.
تسلّمت رئاسة القسم من سلفي، وجلست وراء مكتبي أفكر في كيفية أن أكون أهلا للمنصب وماذا سأفعل حتى أثبت أنني جدير به، علما أن طموحي حينها كان أكثر من مجرد رئيس قسم، أقول ذلك للأمانة واحتراما للحقيقة.
كان مخصصا للقسم ثلاث صفحات فقط، الأولى محلية، والثانية للبورصة وأسواق المال، والثالثة للأخبار الخليجية والعربية والدولية، وكان علي أن أتكيف مع هذه المساحة، نقصانا في الأخبار أو زيادة فيها.
سرت على نهج سلفي لمدة أسبوع، وكنت أعاني من النمطية، ولم أكن معتادا على ذلك، فأنا شاب صغير السن أحاول أن أقطف النجوم، تلك كانت طبيعتي.
صادف في الأسبوع الثاني على تولي رئاسة القسم انعقاد مؤتمر الدول المصدرة للنفط “أوبك” في جنيف، وغني عن البيان أهمية مؤتمرات هذه المنظمة الدولية، خصوصا في تلك الفترة الزمنية، وتأثير قراراتها على أسواق النفط العالمية.
احترت ماذا أفعل، ووضعت أمامي كمية من الأوراق، وبدأت أخطط لرسم الصفحات وفقا للأخبار المتوفرة لدي، وكانت كثيرة على ما أذكر، والمساحة المعطاة للقسم لا تكفي لاستيعابها كلها أو حتى ثلثيها، وأنا حريص على نشر كافة الأخبار من منطلق الأمانة كونها ملكا للقارىء، الذي لا يدفع أكثر من خمسين فلسا ثمنا للعدد الصادر من الجريدة.
تفتق ذهني عن التالي: أن أخصص الصفحة الأولى لمؤتمر “أوبك” وبعض الأخبار المحلية المهمة، والصفحة الثانية مخصصة أصلا للبورصة وأسواق المال ولا مجال للاجتهاد فيها، على أن أنشر بقية الأخبار في الصفحة الثالثة.
وهنا خرجت عن المألوف بأن ابتكرت ما يطلق عليه “موجز” حيث اختصرت كافة الأخبار الزائدة تحت عناوين “موجز خليجي وآخر عربي وثالث دولي”، وكنت أوجز الخبر في بضعة أسطر مركزا على أبرز ما فيه، وهكذا استطعت أن أنشر كافة الأخبار، علما أن الصفحة زادت أناقة وجمالا ب “المواجز” وغادرت مكتبي إلى بيتي وأنا في قمة السعادة.
في اليوم التالي وفي اجتماع مجلس التحرير برئاسة مدير التحرير وعضوية رؤساء الأقسام، افتتح المدير الاجتماع موجها لي التقريع والتأنيب على تغيير نمط صفحات القسم دون الرجوع إليه، معتبرا ذلك خروجا عن المألوف، أما انا فقد “ذبت” في ثيابي، واحمر وجهي وأنفي وأذناي وتمنيت لو لم أكن موجودا كوني حساسا جدا بالفطرة.
لا أعرف كيف مرّ ذلك اليوم، حتى أنني لم أستفسر ما إن كنت أمضي على النمط القديم أو الجديد.
في اليوم التالي وفي اجتماع مجلس التحرير، دخل المدير بشوش الوجه منفرج الأسارير، وأملى بداية على مقرر الاجتماع وقتها الزميل الشاعر أحمد مطر جملة من العبارات الرقيقة الرنانة مشيدا بي وبمهنيتي، مثنيا على مجهودي الذي أثمر تغييرا في الشكل والمضمون مؤكدا مقولة أن “أعط خبزك للخباز ولو أكل نصفه”.
وفي نهاية الاجتماع استبقاني مدير التحرير طالبا مني أن أرافقه إلى مكتبه، حيث كانت “الحلاوة” الأولى حبة “ماكنتوش” وشرح لي موقفه المتباين في اليومين المتتاليين، مشيدا بمناقبيتي المهنية لكنه خائف علي من إجهاد نفسي كونه رأى أنني أعطيت كل ما أملك دفعة واحدة، سائلا إياي: يا بني لو طلبت منك الآن أن تغير في تركيبة أخبارك ماذا ستعطيني؟
المهم أنني سرت على النهج الجديد، وكنت في غاية السعادة لأنني دشّنت أسلوبا جديدا سار عليه بقية الزملاء من رؤساء الأقسام، واستُتبع بوضع “ماكيت” جديد للجريدة مواكبة للتغيير.
أما مقولة مدير التحرير بأنه خائف عليّ من إجهاد نفسي فقد حفظتها في الذاكرة ولم أعمل بها حتى عندما أصبحت مدير تحرير. كنت أسعى دائما إلى الابتكار والطلب من الزملاء الذين عملوا معي أن يكونوا كذلك.. مع قناعتي بأن لكل أسلوبه في الحياة وفي العمل.. أما عبارة “أعط خبزك للخبّاز” فلا تزال ترنّ في أذني حتى الآن.