نجيب عبد الرحمن الزامل
الدعوة لمحاربة الأفكار والطرق الغربية، أو فلنقل التي تأتينا من الخارج مبررها الحرص على تراثنا الأصيل. ويستمر التدليل على محاربة الأفكار الخارجية بأن فكرنا لابد أن ينبع من داخلنا ومن بيئتنا ومن طبيعتنا ومن تاريخنا. إن مثل هذا الحرص نقف له شاكرين بل فخورين بمن يدعو إليه.
ولكن.. هناك سؤال لابد أن نطرحه على أنفسنا، ونفكر فيه جيدا، وهو: “هل الحقيقة أن تاريخنا خالصٌ مخلَّصٌ من حصيلة تفاعل داخلي، وأنه لم يخالطه أي عناصر من الخارج؟
إن هذه الأمة بالذات، الأمة الإسلامية بكل عهودها وأطوارها، هي آخر أمة من الممكن أن يكون جوابها بالإيجاب. نعلم أن الأمة هذه تقدر بطبيعتها الميكانيكية أن تحتفظ بأصالتها، وحصل ذلك في أول القرون، ولا ننسى أن هذه الأصالة استقبلت الكثير من الفكر الخارجي، بل حتى العقول غير العربية ثم هضمتها في أصالتها. أخذ العرب المسلمون من كل حضارة وبقسط وافر، من الصين عبورا بالهند إلى الفرس واليونان، ولكنها لم تصبغهم، بل دخلت كل تلك التيارات الجديدة داخل غطاء الصدَفة لتشكل اللؤلؤة العربية الخالصة. هذا هو ما جعل الحضارة الإسلامية على ما هي عليه، أو كانت عليه، وصارت الأفكار الخارجية والتفاعل مع الحضارات الأخرى عنوانا لنضج الثقافة العربية الإسلامية وتطورها.
ولنأخذ مثالا هنا معنى الدولة في التاريخ الإسلامي.
منذ عصر الفتوحات والعرب يذهلون العالمَ بفتوحاتهم الكبرى، واكتسحوا في طريقهم إمبراطوريات قديمة وعاتية. ومن هنا بدأ العربُ دولتهم الكبرى على أساس اقتباس ما يصلح لهم من أنظمة الدول التي خضعت للفتح العربي، بل إنه كان طبيعيا أن يكون الأخذ من تجارب قائمة في دول ممارسة لمعنى الدولة واسعا بحكم أن مساحة الفتوحات شاسعة، ولأن تجربة العرب في بناء الدولة لم تكن متاحة، فقد كانوا يعيشون حياة بسيطة بين قبائل متنقلة، أو حواضر تقليدية تزدهر بقوافل التجارة والعبادة.
تصوروا لو أن العربَ في ذاك الحين رفضوا أي فكرٍ خارجي بالضراوة نفسها التي يتحمس لها قسم متعصب من الناس ضد أي فكر دخيل بإطلاقه، فهل كان بإمكانهم بناء دولتهم؟. كل حضارتهم انتقالا من البداوة العفوية البسيطة بُنيَت على إعمال عقولهم وما تمليه عليه شريعتهم وذوق طبائعهم من اختيار الأفكار الوافدة وتطبيق ما يصلح منها دون أي حساسية أو تعقيدات، ولا خوف على رسالتهم.
كانت الأمة العربية، أو العقول العربية في ذلك الوقت تتحلى بالشجاعة بأن تحافظ على أصالة تتقبل وتهضم الأفكار الواردة بعد تصفيتها ثم دمجها في الشكل البنائي الكلي للحضارة الإسلامية. الآن عندما نقول فلنحافظ على أصالة تاريخنا، أو ثقافتنا الإسلامية فهذا يعني الحفاظ على أصالة وحضارة ميكانيكية حية تقبلت الأفكار، بل بنت حضارتها واستقرارها في الأعظم من استدلالات في الأفكار الواردة، وبقيت أصالتهم قوية، وبقي دينهم ينتشر أكثر ولم يكتسبوا من الآخرين عقائدهم.. أبدا.
لا نخاف على أصالتنا ما دمنا قادرين ونؤمن باستقبال الأفكار الخارجية، وأن يكون ضمن هذه الأصالة التي نجح فيها أجدادُنا، وألا يكون تغريبا كاملا، أي ترك كامل الحضارة والانتقال إلى حضارة جديدة.. هنا يكون الضياع!