ما أجمل أن تبتعد عن حلبة الصراع الضيقة؛ لتملأ ساحة الحياة الشاسعة بابتسامات العطاء، ما أروع أن تختار ميادين النفع العام لترُكض فيها خيل العمل الجاد، بدلا من أن تُهلك ثواني عمرك تحت سقطات الرماح الطائشة، والتراشق العبثي، دع الذين لا يستطيعون أن يعيشوا إلا إذا تغذوا على لحوم الآخرين، واعتزل موائدهم الدامية، وانسج حُلل الحرير الوردي ولو في زاوية من زوايا مصنع بعيد عن الأعين؛ لتكون إضافة على الوجود وليس عبئا عليه، المهم أن تكون داخل دوائر الإبداع الخلاق، وأن تعيش حياة تلد الحياة الأطول بعدها في دنياك وأخراك.
تلك العزلة التي لا تعرف الانطواء، ذلك الانزواء الذي لا يعرف الهروب عن المسؤوليات، ولكنه الفهم الحقيقي لمعنى الحياة، التي كثيرا ما نتحدث عن زوالها، ولكن ما أقل حديثنا عما نخلده بعدنا فيها.
كل إنسان سيختار موقعه، إما أن يحمل معول هدم يرى أنه وسيلة لبناء سمعته ولو على حساب دينه ووطنه وأهله، وإما أن يحمل طوبة ليضعها في بناء مستقبل بلاده، يحمل العبء وحده لو لم يجد من لا يحمله معه، ويعين على حمل أعباء غيره كذلك، وهو يجد أن أنفاسه الحقيقية لا تتردد إلا من خلال هذه الرئة العظيمة.
لا وقت للهو الذي يخسف بالعمر، ولا عقل لمن يستجيب للإلهاء بأي شكل من الأشكال، حتى وإن بدا براقا، يجيد صاحبه تنميقه والزهو به، فهو في النهاية فارغ من المحتوى.
العالم المستقر عرف أن الطريق إلى الاستقرار هو الإبداع في صناعة الحياة، والإصرار على أن تستكمل كل احتياجات الإنسان في إطار من الاحترام والمبادرة، والعالم المائج لا يزال مخفقا حتى في وسائط الحوار، لأن الهدف لديه مفقود، ولم يعد هناك فرق بين حوار الأسواق وحوار الشاشات، بين حوار العوام وحوار المثقفين والنخبة، والحقيقة متوارية وراء تلك (الهيشات).
الحياة أعز من ذلك، والحصيف من يصرف همه ووقته فيما يزيد من مهاراته، ويطور قدراته، ويستكشف المزيد من مواهبه، ليتسع نطاق أثره في الحياة، وفي من حوله، وكلما كان سعيه فيما هو أحوج، كان حجم عطائه أجل.
كالمصباح ـ مع صمته المتواضع ـ فإنه كلما ارتفع اتسعت دوائر نوره، كالعطر .. أينما فُتحت صُرته فاح عبيره، وكالورد أينما اهتزَّ غُصنه انتشر أريجه.
لماذا يتفرج بعضنا على من يقدمون كل ما في وسعهم لإسعاد الآخرين، ثم لا يخطو في الاتجاه الذي ساروه ولو خطوة واحدة ليقدم مثلهم؟ بل قد يختار دور الجمهور المشوش أحيانا، بمسوغات نفسية خفية، وتبريرات ظاهرية غير موثقة، بل مبنية على الظنون والتوقعات.
تبدأ الحياة الخصبة حين تنطلق النفس من أسر الهوى الطاغي، والشهوات الجامحة، والتبعية العمياء، وتتوقف عندما تضع كفيها في تلك الأغلال.
أمتنا ووطننا ومجتمعنا أحق بأوقات النخبة من شجارات يتشاغلون بها فيما بينهم، الحريق يحتاج إلى دلاء من الماء وليس إلى صراخ وعويل.
هذا الإمام الرازي بعد أن أمضى ردحا من عمره في المناظرات مع المخالفين، إذا به يقول: «نهاية إقدام العقول عقال، وأكثر سعي العالمين ضلال، وأرواحنا في وحشة من جسومنا، وحاصل دنيانا أذى ووبال، ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا، سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا، وكم من جبال قد علت شرفاتها، رجال فزالوا والجبال جبال».
في مثل هذا الوضع الحذر الذي تعيشه أمتنا ينبغي أن نتجنب كل ما يفرق وحدتنا، ويشتت شملنا، ويشمت فينا عدونا، وأن تكون جميع خطواتنا في اتجاه ما يحفظ علينا ديننا وأمننا، ويطور حياتنا نحو الأفضل.