دعوني أولا أروي لكم قصة واحدٍ من أقسى الطغاة، وأكثرهم جنونا، ويحتل في رأيي اسما براقا في قائمة سفاحي التاريخ، خصوصا أولئك السفاحين الذين يذبحون بدم بارد أبناء جلدتهم، بادعاء أنهم وحدهم يملكون الحقيقة.
“بول بوت” حكم كمبوديا في ذروة المد الماركسي، وكان مهووسا بالدم، وبالفكرة الماركسية التي اختمرت في رأسه حقيقة، ولا حقيقة غيرها، مثل أي دكتاتور، مثل أي صاحب نفس مكابرة مغلقة وجبارة في أحادية الرأي باسم ملكية الحقيقة مطلقةً. الحقيقة التي اختمرت في رأس ذاك السفاح الدكتاتور الكمبودي فريدة: سفك دماءَ أكثر من مليون كمبودي، خصوصا كل من يلبس نظارة! نعم نظارة، لأنه في رأي ذاك الدكتاتور الطاغية أن كل من يلبس نظارة فهو مفكر، إذن هو برجوازي، إذن هو يستحق الإعدام حالا لأنه ضد العمال والفلاحين. وفعلا طارت أعناقُ مئات الآلاف بنظاراتهم.. وإن كان أحدكم يلبس نظارة الآن فليحمد ربَّه أنه لم يكن في كمبوديا أيام بول بوت.
ويعرف مطلعو التاريخ أن الكنيسة الكاثوليكية بالذات قتلت وحرقت أعدادا لا تحصى من النساء والرجال بتهمة الشعوذة والسحر والهرطقة، ومنهم العلماء وأصحاب الأفكار الإنسانية الكبرى، فقط لأن الكنيسة رأت أنها وحدها تملك الحقيقة. وحُرِقت كتبُ علماءٍ من المسلمين أيضا في عصر الانحطاط وما قبل الانحطاط وحكم عليهم بالردة والقتل فقط لأن الطرف الأقوى كان يدعي أن الحقيقة الدينية يملكها وحده بل حتى العلمية، وما عداه من أصحاب الأفكار من الدين نفسه هم كفار أو ملاحدة يستحقون إقصاءهم عن الحياة. ليس هناك كتاب أوضح وأرقى وأقدس من القرآن الكريم، ونزل بلغة عربية بينة ساطعة، ومع ذلك يختلف المفسرون حوله، وتخرج المدارس المتباينة التفسير والرأي، ولا بأس أن تختلف الأفكار، وتتنوع المدارس، ولكن البأس الشديد عندما يدعي أي طرف أنه وحده يملك الحقيقة، وهنا يكون الدمُ والفراق الكبير في الأمة وفي أصحاب الدين الواحد.
كلنا يعرف ما جرى لأحمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن من تعذيب، وغيره من الذين عارضوا الفكر المعتزلي وما رآه المأمون حقيقة في مسألة خلق القرآن، إذن من يعارض كافر وعاصٍ ضد الله.
إن الهندوس عندهم “أتمان” و”شيفا”، ولكن أيضا يستنبطون آلاف الآلهة في كل وقت، وقدسيتهم مستمدة من قصيدة تكتب من فجر الزمن العميق قبل ظهور أي دين سماوي. ولا بأس أن الهندوسي يخترع إلها لمهنته وصنعته، ولكن البأسَ الشديد أن يقصي شعبا كاملا من جلدته ودينه ويعتبرهم من أقذر المخلوقات طُرا.. لماذا؟ لأن ذلك هو ما يراه الهندوسي حقيقة ومستعد أن يذبح ويموت من أجلها.
ما هي الحقيقة؟ بل هل هناك حقيقة في مجمل أي فكر إنساني؟ الحقيقة مجرد مجموعة من الأفكار، عند هذا الفرد، وعند ذاك، عند هذه القبيلة وتلك، عند تلك الدولة وتلك، وعند ذلك الحزب والمجموعة، ولكنها حقائق لا تلتقي، ولا يضع أحدٌ من الأطراف نفسه مكان الآخر ليفهم معناه ومقصده ونواياه، وإنما هي حقيقة معزولة عند كل طرف، وهنا سر كل خلاف، كل معركة، وكل حرب.
أرى أن المجتمعين في جنيف لن يصلوا لشيء، لأن كل طرفٍ جاء ومعه حزمة أفكاره، وحزمة الأفكار هي الحقيقة بالنسبة إليه، أو هي الحقيقة التي يسوقها، ولا يتنازل عنها، لذا سيخرج المجتمعون من جنيف حول المسألة السورية أكثر خصومة.. بل إن الطرف الواحد في الأزمة السورية من المعارضة بينهم فرقة وشحناء، لأن كلا منهم يملك أفكارا يراها هي الحقيقة.
كل ما نراه داخل الدول من اعتقالات، وتجبر سلطات ما يسمى بالأمن الداخلي، إنما هو ملكية حقيقة لا يريدون غيرها حقيقة.. فتجري الاعتقالات، وتجري الدماء.. وانظر مصر وليبيا.. وكل بلد عربي.