في العاشرة من عمري، وكنت في الصف الرابع الابتدائي، فاجأني أستاذ اللغة العربية رحمه الله بكلمات ساهمت في رسم مسيرة حياتي، عندما وزع مسابقة في الإنشاء (التعبير)، وأذكر حينها أن عدد تلامذة الفصل كان يتجاوز الأربعين، نادى على الأسماء وتلا تقدير العلامة، كنت أرتجف وهو يسترسل في توزيع أوراق المسابقة دون أن يتلو اسمي، وكان ترتيبي الأخير، ولكن.
نظر الأستاذ ناحيتي وطلب مني أن أتوجه إليه، رمقني بنظرة لها ألف معنى، وأمرني أن أصعد المنبر ففعلت، تلا العلامة التي كانت كاملة، احتضنني بحنو الأب، قال لي يا بني أنت ستصبح كاتبا وربما صدق.
هذا الموقف انطبع في حياتي الآتية، فأنا لم أكن أعرف حتى معنى أن أصبح كاتبا، وحفزني على القراءة حتى أدمنت عليها منذ ذلك اليوم وحتى الآن.
علّمتني القراءة الكثير.. أن لا أحلم نصف حلم وأن لا أتعلق بنصف أمل.. وأن لا أقف في منتصف الحقيقة.
أسوق هذه المقدمة الشخصية لأدلّل من تجربتي البسيطة على أهمية القراءة والكتابة في حياة الفرد والمجتمع والأمة، ولأوجّه دعوة إلى الشباب كي يقرأوا، فالكتب الموجودة على أرفف المكتبات لم توضع للزينة وليعلوها الغبار، بل لنفض الغبار عنها والغوص في صفحاتها، علما أن القراءة لم تعد مقتصرة اليوم على الكتاب وحده، وهو خير جليس، مع انتشار ما يسمونه الفضاء الإلكتروني.
الحديث في مجال القراءة والكتابة قد يحتاج إلى مجلدات، لكننا في حاجة أولا إلى محفز وسؤال.
هل كان من الممكن أن نطّلع على حضارات وثقافات الشعوب دون أن نقرأ؟ القراءة بساط سحري ينقلك إلى عوالم لم تكن لتعرفها، وتفتح أمامك خزائن تحتوي على ما هو أثمن من المال، العلم والثقافة، تزيدك معرفة، تجعلك كسنبلة قمح مثقلة بما تحمل، تحني هامتها تواضعا.
أحد كبار الكتاب، وأعتذر عن عدم إعلان اسمه، كان يتسلل من مدرسته وهو صبي صغير، متأبطا بعض الكتب، ليجلس على صخرة تحت سنديانة في قريته اللبنانية الجنوبية، كانت بالنسبة إليه المدرسة والجامعة، ينهمك في القراءة دون أن يحسّ حتى بمرور الساعات الطويلة، وهكذا حتى أصبح من أعلام الكتّاب.
قيل للفيلسوف اليوناني أرسطو يوما: كيف تحكم على إنسان؟ فأجاب: أسأله كم كتابا يقرأ وماذا يقرأ، في حين قال أحد الفلاسفة أن “الكتب سعادة الحضارة بدونها يصمت التاريخ ويخرس الأدب ويتوقف العلم ويتجمد الفكر والتأمل”، وقال آخر “إن القراءة وحدها التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة لأنها تزيد هذه الحياة عمقا وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب”.
هل كان ممكنا من دون القراءة أن أتعرف على حكم بعض الحكماء من مثل “الشجرة المثمرة هي التي يرميها الناس بالحجارة”، و “لا تزرع أرضي شوكا لعلك غدا تأتيني حافيا”، و “أول الغضب جنون و آخره ندم”، و”سامح الناس ولا تسامح نفسك”، و” من هزّ بيت جاره سقط بيته”.
أما أنا فكنت وسأبقى ممتنا لكل من قرأت له فزادني علما وبساطة وتواضعا، وجبران خليل جبران من بين عشرات الأدباء الذين قرأت لهم على مقولته “لا تدبّ الحياة في البيت حتى تستيقظ الأم”، وقد أدركت ذلك عندما رحلت المرحومة أمي”.
وجبران نفسه هو الذي يقول “ لا تصادق أنصاف الأصدقاء.. لا تقرأ لأنصاف الموهوبين.. لا تعش نصف حياة.. لا تختر نصف حل ولا تقف في منتصف الحقيقة.. لا تحلم نصف حلم ولا تتعلق بنصف أمل.. إذا صمتّ فاصمت حتى النهاية وإذا تكلمت فتكلم حتى النهاية.. لا تصمت كي تتكلم ولا تتكلم كي تصمت..
إذا رضيت فعبر عن رضاك.. لا تصطنع نصف رضا.. وإذا رفضت فعبر عن رفضك لأن نصف الرفض قبول.. النصف هو حياة لم تعشها.. وهو كلمة لم تقلها.. وهو ابتسامة أجّلتها.. وهو حب لم تصل إليه.. وهو صداقة لم تعرفها..
النصف هو ما يجعلك غريبا عن أقرب الناس إليك.. وهو ما يجعل أقرب الناس إليك غرباء عنك..
نصف شربة ماء لن تروي ظمأك.. ونصف وجبة لن تشبع جوعك.. نصف طريق لن يوصلك إلى أي مكان.. ونصف فكرة لن تعطي لك نتيجة..
النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز لأنك لست نصف إنسان.. أنت إنسان وجدت كي تعيش الحياة وليس كي تعيش نصف حياة.. ليست حقيقة الإنسان بما يظهره لك بل بما لا يستطيع أن يظهره.. لذلك إذا أردت أن تعرفه فلا تصغي إلى ما يقوله.. بل إلى ما لا يقوله”.