يُعد كتاب كليلة ودمنة أول كتاب قرأته في حياتي عام 1975م، بعد كتب الأطفال التي كنت أشتريها وأقرؤها ولا أزال محتفظًا ببعضها إلى اليوم. فهذا الكتاب العجيب الذي كتب قبل مئات السنين وترجم من الهندية إلى الفارسية ثم ترجمه عبد الله بن المقفع إلى العربية وأعاد صياغته في زمن العباسيين في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) بعد أن أضاف إليه من عنده أكثر من ضِعفه من الفصول، لا يزال يحتفظ بنكهته الخاصة وقوة بيانه، وبقدرته على التأثير في قارئيه من مختلف الطبقات والشرائح الاجتماعية إلى يومنا هذا، رغم أن هناك من قال إن ابن المقفع هو من كتبه بالكامل لكنه لم يبُح بذلك خوفًا من بطش الخليفة المنصور.

وقد قُدمت دراسات كثيرة حول الكتاب تنوعت وتباينت في وجهات نظرها حول أصوله ومضامينه. وممن قدّم قراءة موسعة له الكَاتب محمد عابد الجابري في كتابه (العقل الأخلاقي العربي، ص173)، ومما قاله: ومن وجهة نظرنا فهذا يعني أنه كان منذ “عصر التدوين”، الذي ترجم فيه، إلى “عصر النهضة العربية الحديثة”، الذي بلغ أوجه في منتصف القرن العشرين، المرجع الأول في تكوين العقل الأخلاقي العربي. ليس هذا وحسب، بل كان هذا الكتاب، طوال هذه المدة، قيمة في ذاته: قيمة على مستوى “أدب اللسان”، وقيمة على مستوى “أدب النفس”، ومن هنا كان بالفعل أول كتاب مدرسي في الثقافة العربية الحديثة. وهل هناك ما هو أكثر قيمة وأبلغ تأثيرًا على مستوى تكوين العقل الأخلاقي من الكتاب المدرسي؟

ويُعد هذا الكتاب من أفضل الكتب في أدب الحيوانات الرمزي الذي يعرض المبادئ الأخلاقية، والذي يفهمه الجميع كل حسب موقعه، ما أوصله إلى أن يكون من عيون الأدب العربي. وقد كان كتابًا سريًّا حينما حصل عليه الملك أنوشروان من رسوله إلى الهند (برزويه)، الذي بقي هناك سنوات طويلة للوصول إليه ونسخه، قبل أن يُسمح بنشره لعامة الناس.

حصل هذا الكتاب على ما لم يحصل عليه إلا قلة من الكتب في تاريخ الأدب العربي، حيث تُرجم إلى أغلب لغات العالم، وتأثرت به ثقافات عدة بشكل مباشر وغير مباشر، ونَظَمه كثيرون شعرًا، مثل أبان اللاحقي (زمن الدولة العباسية) الذي نظمه في آلاف الأبيات.

أما ابن المقفع فلم يكن هذا الكتاب هو كتابه الوحيد، فقد كتب أيضًا (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير) وغيرهما. لكن نهايته كانت مأساوية؛ حيث قُتل حرقًا بالنار بعد اتهامه بالزندقة.

@yousefalhasan