
في واحة الأحساء بالمملكة العربية السعودية عرفت محمد إياد العكاري إنسانا وشاعرا وطبيبا، التقيته أول مرة في منتدى أحمدية السفير والأديب السعودي أحمد بن علي آل شيخ مبارك، ثم توالت اللقاءات في منتدى اثنينية النعيم الثقافية، ومنه إلى منتدى أربعائية المحيش الثقافية، ثم منتدى الدكتور محمد بودي، فضلا عن ندوات جمعية الثقافة والفنون والنادي الأدبي بالأحساء. وخلال سبعة أعوام أمضيتها في جامعة الملك فيصل عرفت عن كثب العكاري شاعرا مفعم الحس بالعروبة والإسلام، مغردا بقصائده العِذاب في المنتديات والصالونات التي تعد جزءا من عبقرية الأحساء.
فليهنك النصر ديوان مؤلف من إحدى وثلاثين قصيدة خليلية العروض ؛ تقوم على البيت الشطري والقافية الموحدة، كلها مطلقة الروي؛ مما هيأ للشاعر أن يستنفد ما يمور بقلبه من عواطف جياشة يتطلع لا إلى التعبير عنها فحسب، بل إلى إثارة عواطف تماثلها لدى من يتلقى قصائد ديوانه.
وثمة نصوص موازية تصاحب الديوان: العنوان، وبيانات النشر، وتقديم حرره الدكتور عاطف نمُّوس، وكلمة للشاعر جعل عنوانها : معجزة النصر، وعناوين فرعية تعنون القصائد، وبعض الصور الفوتوغرافية التي أوحت للشاعر ببعض القصائد، هذا إلى بعض الأبيات التي كان العكاري قد نشرها في دواوينه الأخرى، والتواريخ التي آثر أن يذيل بها قصائد ديوانه.
ومن يمعن النظر في تواريخ كتابة قصائد الديوان، لن يخطئه ملاحظة أن قريحة الشاعر بلغت أوج خصوبتها في شهر ديسمبر من عام 2024م؛ ففي ذلك الشهر نظم خمس عشرة قصيدة من القصائد الإحدى والثلاثين التي تؤلف ديوانه. ولا عجب؛ ففي ديسمبر ولدت سوريا من جديد بعد أن حررها أبناؤها الشرفاء من فك الأسد وزبانيته، فكان ميلادها الجديد باعثا قويا على نظم ذلك العدد من القصائد؛ وهو معدل ساطع الدلالة على أن صورة الوطن وكفاح الثوار لم يغيبا عن عين الشاعر ومخيلته؛ بحيث استطاع أن ينظم كل يومين قصيدة وطنية، وأن يحفر اسمه كواحد من شعراء الثورة السورية.
ولعل من أقوى شواهد الديوان دلالة على شخصية الشاعر، وترجمة لخلائقه ، قوله:
أنا المسكون للحق انتمائي سأبقى ما حييت لـه نصالا
فهذا البيت يمثل مفتاح شخصية العكاري الإنسان كما عرفته في الأحساء ، ويمثل شخصيته كشاعر قرأته في قصائد ديوانه : ليهنك النصر؛ فلا انفصام بين العكاري المنتمي للحق، وبين العكاري الذي تسامى على أحزانه حال اغتيال ابنه الشهيد قتيبة في سجون بشار. لا انفصام بين العكاري الذي يصر على أن يحيا نصالا للحق والعكاري الذي يبدو رابط الجأش وهو يرثي قتيبة؛ فما قتيبة سوى نصل من نصال الحق كأبيه تماما. وحقا إن الإنسان ليجزع أمام محنة الفقد بصفة عامة وفقد فلذات الأكباد بصفة خاصة، ولقد يبالغ الشعراء- وهم من أرق الناس حِسًّا- في التعبير عن فقد أبنائهم؛ فابن الرومي يستنزل اللعنات على المنايا حين يرثي ابنه محمدًا بقوله:
ألا قاتـــل الله المنايــــا ورميها من الناس حبات القلوب على عمد
وإبراهيم بن المهدي لا تكف عيناه عن سح الدموع حزنا على وفاة ابنه:
نأى آخر الأيام عنك حبيب فللعين ســحٌّ دائــمٌ وغــروب
وابن عبد ربه يبدو جزعا ، نافد الصبر، مسكونا بالفجيعة إثر وفاة ابنه يحيى:
لا صبر لي بعده ولا جلد فجعت بالصبر منه والجّـلّد
ولكن موقف العكاري أمام محنة الفقد يختلف تماما عن موقف ابن الرومي وإبراهيم ابن المهدي وابن عبد ربه؛ ففي رثاء قتيبة لم يسمت سمت ابن الرومي فيستنزل اللعنات على المنايا، بل يبدي رباطة جأش تؤكد كونه نصلا للحق. استشهد قتيبة فلم تسح عينا العكاري دمعا كما سحت عينا إبراهيم بن المهدي، ولم يجزع كما جزع ابن عبد ربه؛ ذلك أنه يرى في شهادة قتيبة شرفا يزهو به ؛ آية هذا أنه يعنون مرثيته ب ” قتيبة أيُّ الفخر يجري به دمي”، بل إن معجم مرثيته يخلو تماما من دال الدمع ومرادفاته، ويتسع للعديد من الدوال التي تفيض طمأنينة وتفاؤلا ؛ مثل العز، والبشر، والبشرى، وبشراك، والخلود، والمعالي، والعلياء، والفردوس، والمهر، والأجر؛ يقول:
قتيبة أيُّ الفخـر يجري بــه دمي وأي مطـايـا العــز مركبهـا جمــرُ
……..
قتيبــة أنت البرُّ والعــزمُ والحجـى وذا البطلُ الضِّرغامُ والعالَمُ الحرُّ
……..
بني أراك الآن بِشْــــرًا وفــرحــة ولكن نفسي كــم يراودهــــا الفِكْرُ
………
فتلك هي الأقدار نرضى بما جرى وكـــل بميقـات، وكـــل لــه عمـر
وذاك الذي نلقـــاه مـن فضل ربنـا فبشرى وبشرى والمعالي لها مهر
………
ونُعْمَاك يا ابْني فالخلود كرامةٌ وذي جنَّةُ الفردوس.. ذا الفوزُ والقَدْرُ
ويا فخر ما لاقيتَ نِلْتَ شــهادةً حياة بهــا العليـاءُ.. والقـدرُ.. والأجرُ
ويا فـوز أهليك، الشـفاعة مِـنَّةً وهـذي دمشق الغـار أُهْدي لها النصرُ
وإلى جانب رثاء الشهيد قتيبة نجد في الديوان مرثية أخرى عنوانها: فأنت الشهيد الحي والفارس الأوْلى؛ وهي لامية، مطلقة، تقع في سبعة وعشرين بيتا، نظمها الشاعر في رثاء الشهيد عبد الباسط الساروت، وعدد فيها فضائل المرثي من الشجاعة والفداء والإيثار وغير ذلك من الفضائل النفسية التي ألف شعراء العرب أن يمتدحوها في رثاء الأعلام والأجواد والأبطال.
كما نجد في الديوان قصيدة يعارض فيها العكاري لامية صديقه الشاعر السعودي محمد عبد الرحمن آل عبد القادر، عنوانها: كأني قد رضعت لبان هجر؛ وهي لامية، مطلقة، مردفة بألف، عدتها ثلاثون بيتا، يفصح فيها عما يفعمه من حب للشام والأحساء وتقدير لصديقه، ويبث عواطفه عبر ضمير التكلم بما فيه من بوح يبدو معه الشاعر وكأنما يُؤْثِرُ المتلقي بأسراره ونجوى فؤاده :
ومهواي الشـآم هــوى فـؤادي لهـام المجــد منجمهـا جمـالا
ويا للنسر في الأموي صرحا كــأن العــز مـن جنبيه طـالا
بجلـق ذا الصليـل بسيف حـق ومأوى الروح حـالا ثـم فـالا
وذي الأحسـاء تسكنني بحسي لألقى القلــب حابـاهـا ومـالا
ليحملني هــــــواهـــا للمعـالي ويـؤنسني بقــامتهـــا جمــالا
كأني قـد رضعت لبـان هجــرٍ ومـا برح الوجيب لها وصالا
ثم لا يلبث العكاري أن يعدل عن البث بضمير التكلم إلى البث بضمير الخطاب؛ إذ يستحضر صديقه الشاعر محمد عبد الرحمن آل عبد القادر واصفا إياه بكونه شقيق الروح وشطر القلب :
ومثلك كالنسيـم شقيق روح وشطر القلب إن صح احتمالا
وفي الديوان تأملات شعرية تتردد أصداؤها في قصيدة عنوانها: والظلم دورة حاله لمحاق، يستهلها الشاعر باستفهامات تتجه إلى الداخل فتستنفد تفاقم إحساس الذات بالدهش والترقب، وفي الوقت نفسه تتجه إلى الخارج لتستنفر طاقات المتلقي وتورطه في إنتاج الدلالة :
أغروب شمس أم شهود سباق؟ للمعصرات بدفقهـا الخـفاق
ماذا هنالك والمناظـر روعــة ذاك الغروب بمشهد خـلاق؟
وبأوفى نصيب من قصائد الديوان تستأثر الوطنيات، وفيها يتسامى الشاعر على إحساسه بالغربة المكانية ، وإحساسه بفقد ابنه ؛ بحيث يبدو قادرا على الحب، عاشقا للوطن ، مذهولا بفرحة النصر وكأنما هو بين اليقظة والحلم:
أأحلـم؟ أم تلك الأمـارات والبشر أدقــق مـا ألقــاه.. حــالٌ بـه الجمْـرُ
وأفرك عيني هـــل تراه حقيقـة؟ أم النـــومُ يغشانــا!! وذا أمــرُه أمـرُ
أأحلـم؟ أم جــاد الزمــان ببشره وأرقب مـا في ذا الفضـاء بـه اليُسرُ
……
لأكتب أسفارا من النــور حبرها وأجـلو بها وجـدي وذا النَّفَسُ الحـرُّ
فيا جـلق الأمجــاد طيبي وكـبري فــذا الصبح والإشراق هلَّ به الفجرُ
وفي وطنياته يستدعي العكاري الأمكنة التي اضطره نظام الأسدين: حافظ وبشار إلى الاغتراب عنها ثلاثة وأربعين عاما، وتلك التي كانت له وطنا ثانيا ، ويضفي عليها قيما تمنحها جمالياتها؛ وها هو ذا يستدعي دمشق بوصفها عروس الشرق وشامة الهوى:
فيا جلـق الفيحـاء تيهي وزغـردي فأنت عروس الشرق معلمه فخـرا
وأنت السنا والمجد يا شامة الهوى وأنت عروس لا تُقارنُ.. والذكرى
كما يستدعي حماة ويصف نواعيرها:
هنــا الفتوحـات والرايــات خافقــة وصرح عزٍّ بهام المجد موصولا
تلقى النواعير تشدو في حماة هوىً من فرط غبطتها جـادت تراتيلا
ويستدعي حمص لافتا إلى إرثها التاريخي: مرقد خالد بن الوليد:
ويالحمص وســيف اللــه مـرقــده يكــاد ينهــض ممـا يعـتري قِيـلا
وهو لا يقتصر على وصف الأمكنة، بل يصف أثرها في نفسه؛ كقوله في دمشق:
دمشق هــواك أغنيةٌ وصفو الود ريحُ صبا
أطير إليك في لهــف أحـــن إليـــك منتســبا
ومنه قوله واصفا مكانة الشام وجلق وقاسيون في نفسه :
يا شـام عزي ويا أهـلي ويا وطني طال اشتياقي وشمس الوصل بالشام
وجلق الحسن من أهــوى وفـاتنتي بـالـغــوطتيــن وذكـراهــا بــأيــامـي
مهما اغتربت فنبض الشام تسمعه بقـاســيون شمـوخـي فيــه إلهــــامـي
وقـاســيون العـــلا بالـعـــز طلعتـه يـاللأشـــــم غــــدا نــبراس أيـــامـي
وكذلك قوله متيما بالشام والأحساء:
هوى دمشق أم الأحسـاء إلهامي؟ أم الأهــازيـج مـلء الســمع أنـغــامــي
أم الوجيب بأعماقي يفيض هوىً؟ فالنبض هجرٌ، ومأوى الروح في الشام
….
وهـا هنـا هجــرُ إن لاقيت فاتنـةً عــرس النخيــل بهــا ريحـــان أيــامي
وأطيبُ الطيب أهلوها ولا عجب فتـالــــد المجـــد مخطـــوطٌ بأقـــــــلام
وإذن فلم تغب عن وجدان العكاري تلك الأمكنة التي اغترب عنها قسرا، بل ظلت تؤرقه فتتردد في أشعاره، وتشكل ملمحا بارزا في معجمه؛ ولهذا فلا غرابة في أن نجد أعلاما مكانية تتكرر في قصائده؛ وذلك مثل دمشق وجلق وحلب وحماة وقاسيون، إلى غير ذلك من الأمكنة التي تتحرر من جمودها وتدب فيها الحياة حين يناديها، وحين يسائلها. وها هو ذا ينادي الدار ويتوسل بالنداء إلى مساءلتها واستعادة ذكرياته فيها:
يا دارة العـــز والذكــــرى تناجينــا هـل تذكرين وجوها ها هنا فينا
هل تذكرين على سفح الهوى صورا كنا مررنا هنـا والشمس تسلينـا
كنـــا عقـــودا هنـــا والبـــدر محتفـل يامـا أحيلى ضيوفـا في أماسينـا
هل تذكرين أماسي بالهــوى امتزجت والياسمين بأزكى البــوح يسلينـا
أم تذكرين ودادا حسُّــــــه غـــــــردٌ كأنمــا بلبــل الأفــراح شــادينــا
بجلــق المجـد والصرح الأبــي بهــا والذكريات وذا التاريخ يجلـونــا
ومع أن العكاري كان وسيظل مسكونا بالأحساء حبيبة إلا أنه يئن تحت وطأة الإحساس بالغربة والحرمان القسري من الوطن والتطلع الجارف إلى رؤيته ، وعن هذا الإحساس المركب كان يصدر في قوله:
إذا سمعــت فـــؤادي خـلتــــه بـردى وصـورة العين إن شفَّتْ بها الشــامُ
وللغــــريــب أنـيـنٌ فـــــي تـنـهُّــــــده يــُصَعِّــــدُ الآهَ والأعـمـــــــاق آلامُ
ومرجل الشوق في صدري به صخب روحــي تئن وجــرحـي ليــس يلتـامُ
ويبقى أن يهنأ العكاري بتحرير الوطن وعودة أبنائه، واستعادة سوريا لهويتها ورجوعها إلى أحضان أمتها العربية.
الأستاذ
الدكتور ربيع عبد العزيز أستاذ النقد الأدبي كلية دار العلوم جامعة الفيوم