مكة المكرمة – أصداء وطني :
طالب خادم الحرمين الشريفين الدعاة وأصحاب الأقلام المسلمين، بأن يتبعوا أسباب الخلل الذي يعتري المشهد الثقافي في العالم الاسلامي، ويعالجوها بالحكمة والحجج المقنعة، حتى يستقيم على المنهاج الصحيح الذي يتصف بالوسطية والاعتدال.
جاء ذلك في كلمة افتتاحية لمؤتمر مكة المكرمة بعنوان”الثقافة الإسلامية.. الأصالة والمعاصرة”، الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي أمس القاها بالإنابة عن خادم الحرمين الشريفين سمو أمير منطقة مكة المكرمة.
وفيما يلي نص الكلمة:
أصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, يسرني أن أنقل إليكم تحيات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – وأرحبُ بالإخوة المشاركين في هذا المؤتمر، الذي يعقد في هذه الأيام التي عظمها الله: (( والفجرِ وليالٍ عَشْرٍ )) وفي هذا البلد الأمين الذي يستقبل ملايين المسلمين، قادمين من كل فج عميق.
نسأل المولى الكريم أن يرزقنا التوفيق والعون على خدمتهم، والسهر على أمنهم وراحتهم، حتى يؤدوا مناسكهم على أحسن وجه، ويرجعوا إلى أوطانهم سالمين غانمين.
أيها الإخوة: إن الثقافة الإسلامية هي التي تعرّف بالأمة وتحدّد وجهتها الحضارية، وتربط أطرافها بعضهم ببعض، فبهذه الثقافة يرتبط المسلم بمئات الملايين من المسلمين المبثوثين في مختلف أنحاء العالم، ويشترك معهم في الدين الذي يدين به، والرسالة التي يتبعها، والمشاعر والآمال والتطلعات التي تعتلج في وجدانه، تجاه حاضر الأمة ومستقبلها.
إن الثقافة الإسلامية هي التي توحد الأمة وتصل بين شعوبها ودولها؛ فينبغي أن يعطى لها ولمكونها الأساسي وهو الدين، اهتمام أساسي في الاعتناء بالثقافات المحلية والوطنية وتنميتها، وبذلك يكون الانتماء الوطني مؤسساً على الانتماء الإسلامي في مختلف البلدان الإسلامية.
وأمتنا الإسلامية أمة كاملة الشخصية، لها تجربتها الحضارية المشرقة، وسجلها التراثي الزاخر، إضافة إلى تميزها عن غيرها من كونها خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وتحمل رسالة الله العالمية الخاتمة، وهي رسالة نور ورحمة: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)) النساء/174) [الأنبياء/107].
فمن الواجب على الأمة الإسلامية أن تتمسك بثقافتها وتدافع عنها بالطرق المشروعة، ووفاؤها بالتزاماتها في التعاون الدولي والإنساني، لا يتعارض مع خصوصيتها الثقافية، ذلك أن التنمية البشرية، وما يتصل بها من مفاهيم كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لا يجوز أن تكون خارجة عن إطار البيئة الثقافية للأمة. وصلتنا بثقافتنا تتطلب موازنة بين جانبي الأصالة والمعاصرة فيها. فالمعاصرة هي الاتصال الفاعل بعصرنا، والتعامل مع مشكلاته وملابساته، والاستفادة ما يتوافر فيه من تطورات في العلوم والمعارف ونظم الحياة المختلفة، يقتضي إقامة علاقات إيجابية مع الآخرين للتعايش والتعاون في فضاء المشترك الإنساني الواسع.
والوفاء بمتطلبات المعاصرة لا يتعارض مع التمسك بالجانب الثابت من ثقافتنا، وهو ديننا ولغتنا العربية وقيمنا العربية الإسلامية، يتطلب منا الاعتزاز بتراثنا والاهتمام به والاستفادة منه في تنظيم شؤون حياتنا.
واليوم تعيش أمتنا واقعاً ثقافياً مضطرباً، يحتاج منكم أيها العلماء والدعاة وأصحاب الأقلام، أن تدرسوه دراسة ضافية، وتتبعوا أسباب الخلل فيه، وتعالجوها بالحكمة والحجج المقنعة، حتى يستقيم على المنهاج الصحيح الذي يتصف بالوسطية والاعتدال، ونبذ التطرف والعنف والإرهاب.
والأمر يتطلب تنسيقاً تتكامل فيه الجهود، ويتحقق فيه التعاون في وضع البرامج والخطط التي تنشر الوعي الصحيح، وتحارب الفكر المنحرف، وتصحح التصورات الخاطئة في المفاهيم الإسلامية.
ونحن في المملكة العربية السعودية، استطعنا أن نجرد الفكر المنحرف، من كل الشبهات التي حاول أن يجد فيها سنداً له، وينشر من خلالها دعايته، بفضل التعاون بين علمائنا وأجهزتنا الأمنية ووسائلنا الإعلامية والثقافية، فكونّا بذلك جبهة موحدة عملت على كل المستويات، وفي كل الاتجاهات، لإيجاد تحصين قوي ومستقر في المجتمع من هذه الآفة الدخيلة, ولئن كان التفريط في الثقافة الإسلامية والتقصير في حمايتها، أحد العوامل التي أوقعت بعض أوطاننا العربية والإسلامية في دوامة من المشكلات، فإن الاستقرار الذي تنعم به المملكة والحمد لله، يستند إلى محافظتها على ثقافتها التي هي الثقافة الإسلامية. وسنستمر – بإذن الله – على هذا المسار الذي تأسست عليه المملكة.
وقد استطعنا – بتوفيق الله – أن نصل إلى معادلة التوفيق بين الأصالة والمعاصرة في المسألة الثقافية، فلم يمنعنا التمسك بأصالتنا وبناء منهجنا عليها، من مواكبة العصر والاستفادة من كل إبداعاته وتطوراته المفيدة التي لا ضرر فيها على ديننا وأخلاقنا، ولم نجد في هذه المواكبة الواعية المُرَشَّدَةِ، ما يؤثر على هويتنا وانتمائنا لأمتنا وتراثها وحضارتها المشرقة.
وفي الختام أشكر رابطة العالم الإسلامي ورئيس مجلسها الأعلى وأمينها العام، على ما تسهم به من جهود متميزة في توعية الأمة بواجباتها نحو دينها وأوطانها وقضاياها، ودحض الشبهات والأباطيل الموجهة ضد الإسلام وحضارته ورموزه ومقدساته، ومواجهة الإرهاب والتطرف والغلو، وأسأل الله – تعالى – أن يكلل أعمالكم بالنجاح والتوفيق لما فيه الخير للأمة الإسلامية جمعاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
دين الكمال
ومن جانبه قال سماحة مفتي عام المملكة، رئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ : ” ان شرف المسلم إيمانه برب العالمين ونبيه الكريم وكتابه الكريم وهذه هي عزة الأمة، ويجب أن نطبق ما جاء فيها في عبادتنا واخلاقنا وسلوكنا، ونحن- المسلمين- أمورنا وثقافتنا تنبع من عقيدتنا الشرعية سواء في علاقة العبد بربه، أو علاقته بنفسه، أو علاقته بالمسلمين، أو علاقته مع غير المسلمين» . وأضاف المفتي العام: ” دين الإسلام دين الكمال حل جميع المشاكل، ولا يوجد قضية إلا وجعل لها بيانا من حيث الوجوب والاستحباب والكراهية، لبيان الحق وإزالة الخلل، وبين كيفية التعاملات بين البشر في بيعهم وشرائهم وسائر علاقاتهم بموجب الشرعن وأوضح لهم المحظورات وجميع شئون المجتمع على أن يكون المجتمع من أفضل المجتمعات متلاحماً، واهتم بالأقليات غير المسلمة في بلاد الإسلام وحقن دمائهم ولم يمسوا بسوء “، مؤكداً بأن العلاقات مبنية على العدل والإنصاف وحفظ حقوق الأقليات غير المسلمة ” . وتابع: ” الثقافة تكون بتعظيم اركان الاسلام والمحافظة عليها وتعظيم أوامر الله والمحافظة عليها وبيان معاني الإسلام وصورته الناصعة في قيّمة وأخلاقه، إضافة إلى استخدام الثقافة لتوعية المجتمعات المسلمة لما حل بها من الكوارث التي حلت في بلاد المسلمين وجرتهم للذل والهوان ” .
وقال: ” الثقافة يجب ان تستخدم في الدعوة الى الله والحفاظ على الشباب من الآراء الزائفة التي تسعى لضياع الشباب”، مطالباً علماء المسلمين بتحمل المسئولية أمام الله، للحفاظ على المجتمع، وبيان الإسلام الحقيقي للناس، وتوضيح الحق من الباطل، والصورة الحقيقة للإسلام، وأن يكونوا منبر توجيه الأمة ودعوة صادقة للتحذير من الشر وأهله.
وكان رئيس جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية – قسنطينة – الجزائر الدكتور عبد الله بوخلخال قد ألقى كلمة الضيوف، وقال فيها : ” إن موضوع هذا المؤتمر الخامس عشر لهذا العام جاء في وقته بل هو متأخر قليلا، نظرا للفتنة الكبرى التي عاشها ويعيشها العالم العربي والإسلامي منذ أزيد من خمس وعشرين سنة، بدأت بالجزائر أرض الشهداء سنة 1988م ومازالت مستمرة متنقلة من بلد إلى آخر، حيث تركت في نفوس الجميع آلاما وأحزانا عميقة، وخرابا مدمرا لقدرات العالم العربي والإسلامي، وضعفا وهوانا وهشاشة في البنية الاقتصادية والاجتماعية، وفي الثقافة الإسلامية والعادات والتقاليد والأعراف الموصوف بها والتعايش السلمي مع الآخر “. وأضاف: ” إن الأزمة تلد الهمة، ورب ضارة نافعة، وهناك شعوب كثيرة عرفت طريقها إلى ثقافة السلم والتسامح وإصلاح ذات البين بينها، بعد حروب وخراب وتفرق وأزمات حادة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا….إلخ. , ثم عرفت طريقها إلى التقدم والرقى والتضامن والعدل والحرية بفضل أبنائها المتشبعين بقيم الإنسانية والتعايش السلمي وثقتهم في أنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم، فهذا كله في الحقيقة متوافر، والحمد لله، في الثقافة الإسلامية. “
تحديات مهددة للخصوصية
من جهته، قال الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الأستاذ الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي: ” لقد رأت الرابطة أن تجعل موضوع الثقافة الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة، عنواناً لمؤتمر مكة المكرمة في هذا العام، ولم تكن الأمة في عصر من العصور، أكثر تعرضاً للتحديات المهددة لخصوصيتها الثقافية وانتمائها الحضاري، منها في هذا العصر، وهذا يوجب على المخلصين من أبنائها، أن يواجهوا هذه التحديات بالوسائل والآليات الكفيلة بصيانة ثقافة الأمة من أخطارها.
وأضاف ” التركي ” : ” الأمر يتطلب في ذات الوقت، العمل على مسار آخر، وهو تغيير الصورة السلبية التي انطبعت في أذهان الآخرين عن المسلمين، نتيجة الأوضاع السيئة التي يعيشونها، وحملات التشويه المستغلة لها استغلالاً تعصبياً مغرضاً، مشيراً الى ان من أبرز التحديات الداخلية التي تواجهها الثقافة الإسلامية اليوم، الخلل الذي وقع في أذهان بعض المسلمين، في فهم بعض أحكام الإسلام، في أصوله أو فروعه، وهذا الخلل من أبرز أسباب الاضطراب الذي يعاني منه العالم العربي والإسلامي، فقد أدى إلى ظهور الطائفية البغيضة، والحزبية الضيقة المفرقة، والتطرف المنتج للتكفير والإرهاب.
ولفت ” التركي ” الى ان الطائفية التي تهدد وحدة المسلمين، اليوم، وتستنزف طاقاتهم في تخريب ديارهم وتعريضها للتدخلات الأجنبية المغرضة، وتعمل لتحقيق أهدافها بوسائل شتى، فهمت الإسلام بصورة منحرفة نشأت من أخذ موقف سلبي مريب من سلف الأمة، الذين صدقوا الله ورسوله وأبلوا بلاء حسناً معه وبعده، وانتشر الإسلام في الآفاق بجهودهم، وتلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأمانة وإيمان، ثم أدوه إلى الذين جاؤوا من بعدهم بأمانة، وكانوا في ذلك قدوة لغيرهم في هذه الأمانة التي بها وصل إلينا محفوظاً من كل سوء، والحزبية التي يدعي أصحابها العمل على التمكين للإسلام وتحكيمه، جرّت على المسلمين شراً وبيلاً، وأوقعتهم في فتنة ساحقة ماحقة. وتسببت في تهديد الاستقرار السياسي، والوحدة الاجتماعية، بنشر فكر ضيق ، يوهم أن لأصحابه وحدهم مزية الغيرة على الإسلام وحمايته في المجتمع، وأن كل من لا يتبنى منهجهم يعتبر جاهلاً بالإسلام مقصراً في حقه، وكل من ينتقده أو يعارضه في التوجهات والمواقف، خارجاً عن الإسلام مناوئاً له متحالفاً مع أعدائه، والإرهاب أدهى وأمر، إذ لا يقف أصحابه عند حد الرأي المتطرف الذي يتبنونه، ولا يرون في المجادلة عنه بالتي هي أحسن أي جدوى، بل لا يرون شافياً لما في صدورهم من الغيظ المتكون عندهم من تضليل الآخرين وتكفيرهم، إلا في حمل السلاح على الناس واستهدافهم في أنفسهم وأموالهم، واستقطاب ذوي الثقافة البسيطة والأفهام الضعيفة الذين تنطلي عليهم الخدع بسهولة، وتجنيدهم في عصابات تندفع إلى أهدافها الإجرامية، متوهمة أنها تسعى لنيل ما جاء في فضائل الجهاد، وتقتدي بسير رجال الإسلام الأوائل، غافلين عن أهم شرط من شروط العمل الذي يبتغى به وجه الله تعالى، وهو أن يكون صواباً، وتمييزُ صواب العمل من خطئه، إنما يتلقى من أهل العلم الموثوقين لا من الأدعياء المضلين , وفي أخبار الخوارج عبرة بليغة، لكل مستهين بتحقيق شرط الصواب في العمل الذي يبتغى به وجه الله، إذ لا يخفى ما دونه المؤرخون في أخبارهم، من مظاهر عباداتهم، غير أن ذلك لم يكن ليشفع لهم فيما وقعوا فيه من وقيعة استحلال دماء المسلمين بتوهمات وفهم سقيم معرض عما كان يجب عليهم من رد ما لم يعلموه إلى عالمه، ولخطورة هذا المسلك الشنيع، أنبأ النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث مستفيضة، عن أوصافهم، محذراً من الاغترار بظاهرهم، مرغباً في التصدي لهم وتخليص المسلمين من شرهم. وتابع قائلاً: ” هذه الآفات الثلاث التي أصيبت بها الأمة، هي أخطر ما يواجه الثقافة الإسلامية اليوم، ويحتاج في مكافحته إلى مضاعفة الجهود وتنسيقها بين الحكومات والمنظمات الحكومية والشعبية، ومؤسسات الفتوى والإعلام، لتوفير تحصين قوي للناشئة والشباب، من الأفكار المتطرفة التي أصبحت تروج بسهولة عبر وسائل الاتصال المتنوعة المنتشرة في كل مكان، وإن الجهود التي تبذلها المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب، تعد تجربة فذة رائدة، تحتوي على رصيد كبير من الخبرة والنجاح، وهي جديرة بأن يشاد بها وتستثمر في الدراسات والبحوث التي تعتني بهذا الموضوع المهم.